إيراد السؤال والإشكال، والجوابِ عنه في أحسن مقال، فإن لم يُسْعِفْه الجوابُ بقي ماثلاً في انتظار حلِّ أولي الألباب. كما حشد القرافي كتابَه بالفروق بين المسائل، والتمييز بين المتشابه والمتماثل، هذا مع تَوْشِيَة (?) الكتاب بفوائد مهمة، وتحليته بزوائد جمَّة، وتوشيحه بنكتٍ جميلة، وتَدْبيجه بقواعد جليلة.
فلا جَرَم أن أضحى الكتابُ مَعِيْناً ارتوتْ منه كتبٌ عديدة، وينبوعاً نَهِل منه أصوليون نابهون مادةً فريدة، كالطوفي في شرح مختصر الروضة، والسبكي وابنه في الإبهاج في شرح المنهاج، والعلائي في كتبه، والإسنوي في منهاج السول، وابن جزي في تقريب الوصول، والزركشي في البحر المحيط وتشنيف المسامع، وحلولو المالكي في الضياء اللامع، وابن أمير الحاج في التقرير والتحبير، وابن النجار في شرح الكوكب المنير، وغيرهم جَمٌّ غفير (?) .
ثانياً: شهرة مؤلِّف الكتاب، ونبوغُهُ في علم الأصول، حتى عُدَّ أحدَ ثلاثة علماء عصره الذين انعقد الإجماع علة أفضليّتهم قاطبةً في الديار المصرية (?) .
ولمَّا مات القرافي عليه رحمة الله قال فيه ابن دقيق العيد رحمه الله: ((مات من يُرجع إليه في علم الأصول)) (?) ، ولهذا سجَّله الإمام السيوطي رحمه الله ضمن طبقة من كان بمصر من الأئمة المجتهدين (?) .
فالإمام القرافي بحقٍّ تميَّز بانفراداتٍ في مسائل أصوليةٍ بارزةٍ، وبتحريراتٍ نفيسةٍ راسخةٍ راكزةٍ، فيها جِدَّةٌ وحداثة، نبعتْ من جِهْبذٍ بَحَّاثة، تمتَّعتْ شخصيته بذكاءٍ خارق، وعبقرية فذَّة، تشهد له اختياراته ومناقشاته، وترجيحاته وتصحيحاته، ونقوده وردوده، ونظراته الثاقبة، وتقريراته الصائبة.
ولقد رأيتُني وأنا حَفيٌ بالبحث في الكتاب، كَلِفٌ بحَزْنه وسَهْله، شَغِفٌ بقراءته ودراسته أزداد قناعةً بعد قناعة ساعةً بعد ساعة ببراعة الشهاب القرافي وشموخِهِ، وتألُّقِ نجمِهِ وسطوعِهِ.
ثالثاً: الرغبة في الاطلاع على أصول فقهاء المدينة، دولةِ الإسلامِ، ومنبعِ العلم