النصوص تقتضي إثباتَه ظاهرًا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزِمَ الجمعُ بينَ النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزمَ انتفاءُ النقيضين، ثم فيه تعطيلُ الدليلَين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ غايتُه تعطيلُ دلالة أحدهما، فلابدّ من ثبوتِ أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز أن يُقدَّم الدليلُ المُثْبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلُّفُ مدلولَه عنه، بخلافِ الظنّي. فتعيَّنَ إثباتُ مدلولِ الدليل القطعي دون الظاهر.

ولأن القَطعي إذا كان عقليًّا، فلو رَجَّحنا عليه الظاهرَ السمعيَّ لَزِمَ القدحُ في ذلك الدليل العقليّ، والعقلُ أصل السَّمْع، فالقدحُ في العقلي القطعي قَدْحٌ في أصل السمعي، والقدحُ في الأصل قدح في فرعِه، فيصيرُ تقديمُ السمعي قدحًا في السمعي، وإثباتُ الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعيَّن إثباتُ مدلولِ القطعي العقلي دون الظاهر السمعي، فنحنُ بين أمرين: إمّا أن نُفَوِّض معنى الظاهر إلى الله سبحانَه وتعالى، مع علمنا بانتفاءِ دلالتِه الظاهرة، أو أن نؤوِّله على وجهٍ يسوغ في الكلام.

والقائلون بهذا التقرير يُسمُّون طريقَ المفوِّضة النفاة طريقَ السلف، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحدُ قولَي الأشعري وغيرِه من أهل الكلام. ثم هم في هذا على أقوالٍ:

فغُلاةُ المتكلمين يُحرِّمون هذا ويُوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابنُ عقيل في أحد أقوالِه، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء مَن يُفيد كلامُه بأنه يجب على العلماء دون العامة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015