فإن هذه الصيغة أصل وضعها هو للتحضيض لا للنفي، ولهذا قد يُفعل المحضوضُ عليه بعد التحضيض، كما يُفعل بعد الأمر، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ} [محمد:20]، ثم قال: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20]، فأين هذا من هذا؟ أين إخبارُه بأنهم آمنوا ولم ينفعهم إيمانُهم من كونه وبَّخهم وذمَّهم على أنهم لم يؤمنوا فينتفعوا بالإيمان؟
ولهذا كان الاستثناء بعده منقطعًا، ولو كان نفيًا وسلبًا لكان الاستثناء معه متصلًا، كقوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]، فلما قُطِع الاستثناء ونُصِب المستثنَى عُلِمَ أنه استثناء من نفيٍ وسلبٍ، لكن الكلام تحضيض، فلو اتصل الاستثناء لكان المعنى تحضيضهم على الإيمان إلا قوم يونس، وتحضيضهم على النهي عن الفساد إلا القليل. وهذا يوجب قلبَ المعنى، فإن الله يحضُّ الجميع على الإيمان وعلى النهي عن الفساد، لكن لما ذكر صيغة للحضّ العام بيَّن أن هؤلاء وهؤلاء فعلوا ما حُضُّوا عليه، فلا يتناولهم الذمُّ، فإن الاستثناء المنقطع قد يكون من الجنس المشترك بين المستثنَى والمستثنى منه، كما في قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]، فاتباع الظن مستثنًى من المعنى العام المشترك بين العلم والظن، وهو الاعتقاد، فإنه لما قال: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} بقيت النفس تطلب: فهل عندهم شيء من الاعتقاد؟