والمراد: فله منها خيرٌ، أي: له خيرٌ بسببها ولأجلها.
والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتاب والسُّنة أنَّ الآخرة خيرٌ مِنَ الأُولى مطلقاً. وفي " صحيح الحاكم " (?) عن المستورد بن شدَّادٍ، قال: كنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا الدُّنيا والآخرة، فقال بعضهم: إنَّما الدُّنيا بلاغٌ
للآخرة، وفيها العمل، وفيها الصلاةُ، وفيها الزَّكاةُ. وقالت طائفة منهم: الآخرةُ فيها الجنَّةُ، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما الدُّنيا في الآخرة
إلاَّ كما يَمشي أحدكم إلى اليمِّ، فأدخل إصبعه فيه، فما خرج منه، فهو
الدُّنيا)) ، فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدُّنيا، وما فيها من
الأعمال.
ووجه ذلك: أنَّ كمالَ الدُّنيا إنَّما هو في العلم والعمل، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليه، فإنَّ العلم أصلُه العلمُ بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشفُ الغِطاءُ، ويصيرُ الخبر عياناً، ويصيرُ
علمُ اليقين عينَ اليقين، وتصيرُ المعرفةُ بالله رؤيةً له ومشاهدةً، فأين هذا مما في
الدُّنيا؟
وأما الأعمال البدنية، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين:
أحدهما: اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة، وكدُّها بالعبادة.
والثاني: اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره.
فالأوَّلُ قد رُفعَ عن أهل الجنَّة، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم: ارفعوا رؤوسكم فإنَّكم لستم في دار مجاهدة.