وهذه الرواية تبيِّنُ أنَّ المعفوَّ عنه ما تُرِكَ ذكرُه، فلم يحرَّم ولم يُحلَّل.

ولكن مما ينبغي أنْ يعلم: أنَّ ذكرَ الشيءِ بالتَّحريم والتَّحليل مما قد يخفى فهمُه مِنْ نُصوص الكتاب والسُّنة، فإنَّ دلالة هذه النُّصوص قد تكونُ بطريق النَّصِّ والتَّصريح، وقد تكونُ بطريق العُموم والشُّمول، وقد تكون دِلالتُه بطريق الفحوى والتنبيه، كما في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (?) ، فإنَّ دخُولَ ما هو أعظمُ من التَّأفيف مِنْ أنواع الأذى يكونُ بطريق الأولى، ويُسمَّى ذلك مفهومَ الموافقةِ (?) .

وقد تكونُ دلالته بطريقِ مفهومِ المخالفة، كقوله: ((في الغنم السَّائمة

الزكاة)) (?) فإنَّه يدلُّ بمفهومه على أنَّه لا زَكاةَ في غير السَّائمة، وقد أخذ الأكثرون بذلك، واعتبروا مفهوم المخالفة، وجعلوه حجَّةً (?) .

وقد تكونُ دلالته مِنْ باب القياس، فإذا نصَّ الشَّارع على حُكم في شيءٍ لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره، فإنَّه يتعدَّى الحكمُ إلى كلِّ ما وجد في ذلك المعنى عندَ جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كلُّه ممَّا يعرَفُ به دلالة النُّصوص على التَّحليل والتَّحريم.

فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه، وهاهنا مسلكان:

أحدهما: أنْ يُقال: لا إيجابَ ولا تحريمَ إلاَّ بالشَّرع، ولم يوجب الشَّرعُ كذا، أو لم يحرِّمه، فيكونُ غيرَ واجبٍ، أو غير حرامٍ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه، أو نفي تحريم بعض العُقود المختلف فيها، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلاَّ لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء

طور بواسطة نورين ميديا © 2015