الحال الثاني: أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حالَه في الدنيا، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا، ولهذا أوصى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب.

قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة (?) ؟

وقال الحسن: إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك (?) . وقال: ابنَ آدم إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ، يُوضِعُك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً (?) ، وقال: الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِن ورائكم.

قال داود الطائي: إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها، فافعل، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك (?) .

وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجَّهٌ إليك، والدنيا تُطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015