أَحَدُنَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَالنِّكَاحُ مُنْفَسِخٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُدَّعِي يُخَلَّى وَسُكُوتَهُ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِي، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ إِذْ لَا يُخَلَّى وَسُكُوتَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُدَّعِي مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا، فَالْمُدَّعِي هُنَا هُوَ الزَّوْجُ، إِذِ التَّقَارُنُ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا.
وَأَمَّا الْأَمِينُ إِذَا ادَّعَى التَّلَفَ، كَالْمُودِعِ إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُدَّعٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يُخَالِفُ مَا ادَّعَاهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْمُودِعَ ائْتَمَنَهُ، وَالِائْتِمَانُ يَقْتَضِي قَبُولَ قَوْلِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُدَّعِيَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ هُوَ الْمُدَّعِي، لِيُعْطَى بِدَعْوَاهُ مَالَ قَوْمٍ أَوْ دِمَاءَهُمْ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، فَأَمَّا الْأَمِينُ، فَلَا يَدَّعِي لِيُعْطَى شَيْئًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ، لَمْ يُتْرَكْ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَدِّ الْجَوَابِ، وَالْمُودِعُ مُدَّعٍ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ؛ وَلَوِ ادَّعَى الْأَمِينُ رَدَّ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ أَيْضًا كَدَعْوَى التَّلَفِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِنْ ثَبَتَ قَبْضُهُ لِلْأَمَانَةِ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ، وَوَجَّهَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى دَفْعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا، فَيَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي أَبَدًا، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ كَالْبُخَارِيِّ، وَطَرَدُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ دَعْوَى، حَتَّى فِي الْقَسَامَةِ، وَقَالُوا: لَا يَحْلِفُ إِلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَرَأَوْا أَنْ لَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَرَأَوْا أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُرَدَّ عَلَى الْمُدَّعِي، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.