وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِيجَادِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] [الذَّارِيَاتِ: 56] .

وَقَدْ ظَنَّ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِمَّا يُوجَدُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ، قَالُوا: لِأَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ حَظُّ الْعَبْدِ، وَالْعِبَادَاتُ فِي الدُّنْيَا حَقُّ الرَّبِّ، وَحَقُّ الرَّبِّ أَفْضَلُ مِنْ حَظِّ الْعَبْدِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَيُقَوِّي غَلَطَهُمْ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] [النَّمْلِ: 89] قَالُوا: الْحَسَنَةُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْهَا. وَلَكِنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمُرَادُ: فَلَهُ مِنْهَا خَيْرٌ، أَيْ: لَهُ خَيْرٌ بِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا.

وَالصَّوَابُ إِطْلَاقُ مَا جَاءَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الْأُولَى مُطْلَقًا. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَذَكَّرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ لِلْآخِرَةِ، وَفِيهَا الْعَمَلُ، وَفِيهَا الصَّلَاةُ، وَفِيهَا الزَّكَاةُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: الْآخِرَةُ فِيهَا الْجَنَّةٌ، وَقَالُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ إِلَى الْيَمِّ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ الدُّنْيَا» فَهَذَا نَصٌّ بِتَفْضِيلِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْعِلْمُ مَقْصُودُ الْأَعْمَالِ، يَتَضَاعَفُ فِي الْآخِرَةِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لِمَا فِي الدُّنْيَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَصْلُهُ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ، وَيَصِيرُ الْخَبَرُ عِيَانًا، وَيَصِيرُ عِلْمُ الْيَقِينِ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَتَصِيرُ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ رُؤْيَةً لَهُ وَمُشَاهَدَةً، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا فِي الدُّنْيَا؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015