بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ ... وَقْتَ الْمَسِيرِ وَفِي أَعْقَابِهَا حَادِي
إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا ... رَوْحُ الْقُدُومِ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيعَادِ
وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوَاصِلُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ يُوَاصِلُ فِي صَوْمِهِ بَيْنَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يَقْبِضُ عَلَى ذِرَاعِ الشَّابِّ فَيَكَادُ يُحَطِّمُهَا. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَمْكُثُ شَهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُ شَرْبَةَ حَلْوَى. وَكَانَ حَجَّاجُ بْنُ فَرَافِصَةَ يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يُبَالِي بِالْحَرِّ وَلَا بِالْبَرْدِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْبَسُ لِبَاسَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَلِبَاسَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُ أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَعَمِلَ بِمُقْتَضَى قُوَّتِهِ وَلَمْ يُضْعِفْهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَلَّفَ نَفْسَهُ ذَلِكَ حَتَّى أَضْعَفَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّلَفُ يُنْكِرُونَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ حَيْثُ كَانَ يَتْرُكُ الْأَكْلَ مُدَّةً حَتَّى يُعَادَ مِنْ ضَعْفِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَخْرِقُهُ كَثِيرًا، وَيُغْنِي عَنْهُ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَدْوِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَسُكَّانِ الْبَوَادِي وَنَحْوِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ الْأَفْضَلُ لِمَنْ