جامع الاصول (صفحة 260)

55 - (خ م د) أبو بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيأته يومَ خلق اللهُ السموات والأرض، السَّنةُ اثنا عشر شهرًا منها: أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثَةٌ متواليات: ذو القعدة، وذو الحِجَّة والمحرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادَى وشَعبانَ، أيُّ شهر هذا؟» قُلنا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، فَسكَت حتى ظنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيه بغير اسمه، فقال: «أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «أيُّ بلد هذا؟» قلنا: الله ورسُوله أعلم، فَسكَتَ حتى ظننَّا أنَّه سَيُسمِّيه بغير اسمه، قال: «أليس البلدَةَ الحرام؟» قلنا: بلى، قال: «فأيُّ يومٍ هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يومَ النَّحْر؟» قلنا: بلى، قال: «فإنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحُرمَةِ يومكم هذا، -[264]- في بلدِكم هذا، في شهركم هذا، وستلْقَون ربَّكم فيسألُكُم عن أعْمالِكم ألا فلا ترجعوا بعدي كُفّارًا، يَضْرِبُ بعضُكُم رقابَ بعضٍ، ألا ليُبَلِّغِ الشاهِدُ الغائبَ، فَلعلَّ بعضَ منْ يَبْلُغُهُ أن يكون أوْعى من بعض من سَمِعَهُ» ثم قال: «ألا هلْ بَلَّغتُ؟ ألا هل بلغت؟» قلنا: نعم! قال: «اللَّهُمَّ اشْهدُ» .

وفي رواية: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَعَدَ على بَعيره، وأمسك إنسانٌ بِخِطامِهِ، أو بِزمَامِهِ، فقال: «أيُّ شهرٍ هذا؟» - وذكرَ نحوه مختصرًا - أخرجه البخاري ومسلم.

وزاد مسلم في رواية «ثُمَّ انْكَفَأ إلى كبْشَيْن أمْلَحَيْنِ، فَذَبحهما، وإلى جُزَيعَةٍ من الغَنَم فَقسَمَها بَيْننَا» .

وأخرج أبو داود طرفًا من أوله، إلى قوله «بين جُمادى وشعبان» .

قال الحميدي: قال الدارقطني: زيادةُ مسلم وَهْمٌ من ابن عَوْنٍ عن ابنِ سيرين، وإنَّما رواه ابن سيرين عن أنس.

وزاد في رواية «فلمَّا كان يومُ حُرِّقَ ابنُ الحضْرميّ (?) ، حين حَرَّقهُ جاريةُ -[265]- ابنُ قُدَامة، قال: أشرفوا على أبي بَكْرَةَ، فقالوا: هذا أبو بكرة يراك، قال عبدُ الرحمن: فحدثتني أمِّي عن أبي بكرة أنه قال: لَو دخلوا عليَّ ما بَهَشْتُ لهم بِقَصَبَةٍ» (?) .

ووجَدتُ في كتاب رزين بن معاوية العَبْدَريّ - رحمه الله -، الجامع لهذه الصحاح زيادةً في آخر هذا الحديث لم أجدها في الأصول التي نقلتُ منها: وهي هذه:

«ثلاث لا يَغِلَّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ أبدًا: إخلاصُ العمل لله، ومناصحَةُ وُلاة الأمر، ولزومُ جماعة المسلمين، فإن دعوتَهُم تُحيطُ من ورائِهم (?) » . -[266]-

Sالزمان قد استدار: بمعنى: دار، وذلك أنَّ العربَ كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر، وهو النَّسيء، ويفعلون ذلك سنةً بعد سنةٍ، فينتقل المحرَّم من شهر إلى شهرٍ، حتى جعلوه في جميع شهور السنة، فلما كان تلك السنة كان قد عاد إلى زمنه المخصوص به قبل أن ينقلوه.

رجب مضر: أضافَ رجبًا إلى مُضَرَ؛ لأنهم كانوا يُعَظِّمُونَهُ، فكأنهم اختصوا به، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الذي بين جمادى وشعبان» ذكره تأكيدًا للبيان وإيضاحًا؛ لأنَّهم كانوا يُنْسِئْونَهُ، ويُؤخِّرونَه من شهرٍ إلى شهر، فيحولونه عن موضعه، فبين لهم أن رجبًا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا ما كانوا يسمون على حسب النَّسيء.

أوعى: وعى يَعي: إذا حفظ، وأوعى أفعل، مثله.

قوله: «لا ترجعُنَّ بعدي كُفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» قال -[267]- الهروي: قال الأزهري: فيه قولان: أحدهما: لابسين السلاح، يقال: كفر فوق درعه: إذا لبس فوقها ثوبًا، والثاني: أنه يُكفّر الناس فيكفُر، كما تفعله الخوارج إذا استعرضوا الناس، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «مَن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما» .

الانكفاء: الرجوع إلى الشيء والميل إليه.

أَملحين: الأملح من الغنم: النَّقيُّ البياض، وقيل: هو المختلط سواده وبياضه، إلا أن البياض فيه أكثر.

جُزيْعةُ: القطعة من الغنم، هكذا ذكره الجوهري، وذكرها ابن فارس في المجمل: الجَزِيعة، بفتح الجيم وكسر الزاي.

بَهَشت: إذا ملت إليه، وأقبلت نحوه، يقال لكل من نظر إلى شيء فمال إليه، وأعجبه: بهش إليه، وقد يكون للمدافعة والذَّبِّ، والمراد به: ما دفعتهم بقصبةٍ، ولا قاتلتهم بها.

لا يَغِلَّ عليهن قَلبُ مؤمن: تُروى هذه الكلمة بفتح الياء وكسر الغين، وهو من الغِلِّ: الحقد والضِّغن، يقول: لا يدخله شيء من الحقد يزيله عن الحق، ويُروى بضم الياء وكسر الغين من الخيانةٍ، والإغلال: الخيانة في كل شيء.

وقوله: «عليهن» في موضع الحال، أي: لا يغلُّ كائنًا عليهن قلبُ -[268]- مؤمن، وإنما انتصب على النكرة لتقدمه، والمعنى: أنَّ هذه الخلال المذكورة في الحديث، تُسْتَصْلَحُ بها القلوب، فمن تمسك بها، طَهُرَ قلبه من الدَّغَل والفساد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015