الاقتداءَ بمخالفةِ العرفِ، لأنَّ الكونَ في المجتمعِ والنَّاسِ على سبيل الموافقةِ لا المخالفَةِ مقصودٌ لئلاَّ يقعَ التَّميُّزُ ومن ثمَّ الارتفاعُ على الخلقِ والتَّزكيةُ للذَّواتِ، وإنَّما يدعُ المسلمُ من العُرفِ ما خالفَ الشَّرعَ في أمرٍ أو نهيٍ.
وبعدَ هذا فيبقى من (سنن العادةِ) ما لا ينتدرجُ تحتَ طبعٍِ ولا عُرفٍ، ممَّا لا يخلو في أكثرِ الأحيانِ من معانٍ شرعيَّة ٍ أو صحيَّةٍ أو غير ذلك، يجدُهَا المتأمِّلُ لوْ أمعنّ النَّظرَ، وهذا كصِفَةِ جلُوسهِ - صلى الله عليه وسلم - للأكلِ، فإنَّه قال: ((لا آكُلُ متَّكئًا)) ، وفيه معنى شرعيٌّ دينيٌّ ومعنى صحِّيٌّ، فالمعنى الشَّرعيٌّ الدِّينيُّ بيَّنه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهِ في حديثٍ آخر: ((آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ)) ، [حديثٌ حسنٌ رواهُ ابنُ سعدٍ وأحمدُ في ((الزُّهدِ)) وغيرهما] ، وهذا معنى تواضعٍ وانكِسارٍ، وأمَّا المعنى الصحِيُّ فإنَّ الاتِّكاءَ فُسِّرَ بالتَّربُّعِ، كما فُسِّر بالجُلوسِ معتمدًا على شيءٍ، وعلى أيِّ التَّفسيرِينِ فهيَ هيئةُ تمكُّنٍ تدفَعُ إلى الإقبالِ على الطَّعامِ بنِهمةٍ مع استعدادِ البطنِ للامتلاءِ، فقد استرخَتِ المفاصلُ وارتفعتِ القيودُ، بخلافِ جِلسَةِ العبدِ المُقلقةِ الَّتي صورتُها صورةُ جلسَةِ العَجلانِ الَّذي ينتظرُ متَى يفرُغُ من طعامِه، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدَميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أكلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإنْ كانَ لا محَالَةَ فثُلُثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنَفسِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] .