حجية خبر الآحاد

الدليل على حجية خبر الآحاد: الكتاب والسنة والعقل أيضاً، أي: الأثر والنظر.

أما الكتاب: فعموم قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فهذا عام، أي: ما أتاكم عن الرسول من متواتر وآحاد فعليكم أن تأخذوه.

وأما من السنة فمثالان أوضح من شمس النهار: الأول: ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث الآحاد للأمم أو للكفرة أو للملوك يدعوهم إلى الإسلام، كما في صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى كسرى وقيصر فقال: (باسم الله، من محمد رسول الله إلى قيصر ملك الروم: السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم الأريسيين)، فالذي ذهب بها إلى ملك الروم واحد، وأيضاً الذي ذهب بها إلى كسرى واحد.

وأيضاً بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه لا إله إلا اله) أي: أن يعبدوا الله ويوحدوه، فإن هم أطاعوك فأعلمهم بكذا وأعلمهم بكذا، والمقصود أنه بعث واحداً.

وأيضاً بعث معه أبا موسى الأشعري وبعث علي قاضياً، فبعثهم يعلمون الناس التوحيد والعقيدة والأحكام، بل تواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالآحاد لإقامة الدين ولتعليم الناس العقيدة والأحكام الشرعية، فهذه دلالة على أن الآحاد حجة في العقيدة والأصول والفروع إن صح التقسيم.

الثاني: ما تواتر عن الصحابة أنهم كانوا يعملون بالآحاد ولا يطرحونها، وهناك حديث مختلف في صحته وهو يبين أن أبا بكر هو أعلم الصحابة على الإطلاق؛ لأن العلوم التي عزت عنهم كانت عند أبي بكر، وذلك أنه لما دخل وقبل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (طبت حياً ميتاً)، فاختلفوا فيما بينهم، كيف يغسل النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأين يدفن؟! وكيف يصلى عليه؟! فكان هذا العلم عند أبي بكر؛ لأنه قال: يغسل بثيابه، وهناك حديث عن عائشة أنه أخذهم النعاس وأوحي إليهم بذلك، والمقصود أنه ورد عن أبي بكر أنه كان عنده الدليل، وقال: (كل نبي يدفن في المكان الذي مات فيه)، هذا إن صح الحديث، فالحديث مختلف في صحته، لكن المقصود أنه حديث آحاد وأخذوه من أبي بكر وعملوا به، وهذه دلالة على أن الآحاد يعمل به ولا يطرح، وهو متواتر عن الصحابة.

وأما من ناحية النظر والعقل: فإن الرسول قد بلغ وقد ورد تبليغه عن الثقات، وهذا شرط في الآحاد حتى يصح.

فالحديث الصحيح هو: ما اتصل سنده عن العدل الضابط أو العدل تمام الضبط -ونقول: تمام الضبط حتى نفرق بين الصحيح والحسن، فالحسن خفيف الضبط- عن مثله إلى منتهاه، ونقول عن مثله، حتى يكون الحديث صحيحاً لا بد أن تكون طبقات السند كلها عن ثقة ثبت أو ثقة ثقة، فلو وجد واحد قيل فيه: صدوق، أو صدوق يهم، لقلنا: إن الحديث نزل من درجة الصحة إلى درجة الحسن، لا عن درجة الاحتجاج، بل درجة الحسن، والمقصود أن الآحاد إذا علمت بالنظر أنها بنقل الثقة الثبت عن الثقة الثبت، عن مثله، عن الصحابي الذي عدلهم الله من فوق سبع سماوات، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجب العمل به، بقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]؛ لأن هذه هي حجية خبر الآحاد.

واشترط بعض الفقهاء كالمالكية للعمل بالآحاد شروطاً، أما الشافعية والحنابلة -وكلامهم هو الأقوى والأرجح- فبالإطلاق يؤخذ بخبر الآحاد ويعمل به.

فأما شروط المالكية فيه: أولاً: أن يكون خبر الآحاد لا يخالف عمل أهل المدينة، وهذه من أصول مالك أن عمل أهل المدينة يقدم على خبر الآحاد؛ لأنه يقول: إن أهل المدينة إذا اتفقوا على عمل معين فمؤكد أنهم أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو عمل أهل المدينة بحكم التواتر فيكون أقوى من الآحاد فيقدم، وهذا كلام ليس بصحيح، بل إن خبر الآحاد لا يرد في أي حال من الأحوال، وعمل أهل المدينة ليس بحجة، بل إن الصحابة الذي كانوا في المدينة قد تفرقوا في البلاد، فـ ابن عباس في مكة، وابن مسعود في العراق، ومعاذ وغيره من الصحابة تفرقوا في البلاد، فعمل أهل المدينة يمكن أن يكون من أهل المدينة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) فهذا الحديث ورد في الصحيحين، وقد رده مالك؛ لأن عمل أهل المدينة يخالفه، وقلنا: حتى عمل أهل المدينة يوافقه، فـ سعيد بن المسيب وغيره يقول به، والزهري وغيره يخالفونه ويعملون به، والمقصود أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد.

ثانياً: ألا يخالف الأصول العامة، واتفقوا مع الأحناف في هذا الشرط، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم قعد قاعدة وهي الخراج بالضمان، ومعناه: محمد له مال على أحمد، فأحمد قال له: نحن لنا أجل كذا وهذا رهن القرض، وأعطاه شاة رهناً للقرض هذا، فالرجل المرتهن أخذ الرهن ويعلفه ويطعمه، فخلافاً للشافعي أنه كل يوم يحلب الشاة ويشرب لبنها، وهو ضامن لو ماتت، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان)؛ لأنه ضمن أي شيء يأتيه منها من اللبن وغيره، فهذا يكون ملكاً له، ولا يطالبه به الراهن في أي حال من الأحوال.

وأيضاً ردوا حديث المصراة، وهي التي يبقى الحليب فيها حتى تظهر أنها سمينة، وأنها تدر لبناً كثيراً فيغرر بالمشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن بيع المصراة لا يجوز؛ لأن فيه تغرير بالمشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع المصراة، لكن قال: (إذا رضيها المشتري فهي له، وإذا لم يرضها فله أن يردها ومعها صاعاً من تمر مقابل اللبن) فهم اعترضوا وقالوا: بعدم الأخذ بهذا الحديث؛ لأنه يخالف الأصول، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) فهو خرج اللبن، فلماذا يرد الصاع من التمر؟! وهي كانت بضمانه لو ماتت عنده، ولا يطالب البائع بمال، فالخراج بالضمان.

لكن نقول لهم: أولاً: الحديث أصل بذاته، والأصول إن كانت نابعة من الحديث فهي أصل بذاتها، فالسنة أصل بذاتها، والحديث أصل بذاته، وأما الشبهة التي ألقيتموها علينا بأن الخراج بالضمان، نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) هذا عام مخصوص بالرهن.

ثانياً: هو لا ينزل تحت الحديث: (الخراج بالضمان) لأن اللبن اختلط، بين لبن كان محبوساً ولبن أخذ عند الرجل فاختلط هذا بذاك، فإذا اختلط حصل النزاع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تتدابروا) وحتى لا يحصل التدابر ولا التشاحن حسم المادة وفصل النزاع وقال: (ردها وصاعاً من تمر)، حتى لم يقل: رد اللبن؛ لأنه لا بد أنك ترد اللبن نفسه أو ترد مثله.

واشترط الأحناف بانفراد عن المالكية شرطاً وهو: ألا يخالف الحديث القياس، وهذا كلام باطل، فالقياس إذا خالف النص قلنا: إنه فاسد، لكن لهم شروط في القياس، كأن يكون جلياً، وغيرها.

والشرط الأخير الذي اشترطه الأحناف: أن الراوي إذا خالف ما روى رد الحديث، أي: لو أن راوياً روى رواية، وخالفها فيرد الحديث بذلك؛ لأن القاعدة عندهم: أن الحجة فيما رأى لا فيما روى، وهذا كلام متهالك؛ لأنه يحتمل أن الراوي الذي روى هذا الحديث اجتهد اجتهاداً، أو نسي الرواية فلم يتذكرها عند العمل.

فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها في بعض الروايات أنها عملت بغيرها، وورد ذلك عن ابن عمر أيضاً وعن غيرهما، فنحن نقول: الحجة فيما روى لا فيما رأى؛ ولأنه كما قعد ابن عبد البر: لا حجة لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال مالك وأحمد والشافعي وغيره: إذا خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وابن عباس كما في الصحيح جلس يتكلم عن متعة الحج، فقال التابعون له: إن أبا بكر يقول بغير ذلك وعمر يقول بغير ذلك، فقال ابن عباس: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، فإذا خالف قول الصحابي قول النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقدم إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا حجة إلا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تعبدنا الله إلا باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].

وهذه هي الشروط التي اشترطها الفقهاء، وهي شروط ليست بصحيحة، وكلام الشافعية والحنابلة هو أصح الأقوال بأن: خبر الآحاد حجة بالإطلاق.

أما قولنا: الحجة فيما روى لا فيما رأى، أي: إذا ابن عمر مثلاً قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه، وهو لم يكن يرفع يديه، أو روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى وابن عمر ينكر الضحى، وهناك تفصيل فقهي في هذه المسألة، وهل ابن عمر ينكر الضحى أو ينكر صلاتها جماعة؟ ورد في الصحيحين أن عروة بن الزبير لما أراد أن يخرج من عند ابن عمر وجد الناس يصلون، فسأله عن ذلك، فلما أنكرها قال: بدعة، فقال عروة: يا أم المؤمنين! -يقصد عائشة - أتسمعين ما يقول؟ فوهمت عائشة، فنحن نقول: إنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى كل يوم سبت يذهب إلى مسجد قباء، ومن صلى فيه صلاة فهي بأجر عمرة.

وأيضاً كان النبي صلى الل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015