السنة التقريرية حجة أيضاً، لكنها أضعف من السنة الفعلية، فعند تعارض الفعل مع الإقرار يقدم الفعل على الإقرار، وذلك إذا لم نستطع الجمع بينهما.
والسنة التقريرية هي: أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعل صحابي يتعلق به حكم شرعي، فيقره عليه، أو يرى فعلاً له حكم يتعلق بحكم شرعي، فيقره على ذلك.
مثاله: الحديث الذي في سنن أبي داود أو في المسند أن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه كان في غزوة ذات السلاسل عندما بعث له النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي بكر وعمر وأمر عليهم أبا عبيدة، وقال: (تطاوعا ولا تختلفا) وأبو عبيدة أفضل من عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، ولكنه لا يداني أبا بكر وعمر في المكانة، فلما ذهب إليه فقال أبو عبيدة: أنا الأمير، أمرني على أفاضل الناس، وأراد أن يصلي بالناس، فقال عمرو بن العاص: لا، أنا الأمير، ولا يؤم المرء في سلطانه، قال أبو عبيدة: أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم: (تطاوعا ولا تختلفا، سأنزل على رأيك)، فكان هو الأمير، فوضعوا أنفسهم خلف أظهرهم، وانتصروا على أنفسهم قبل أن ينتصروا على الشيطان، ولذلك يقول بعض العلماء: لن ينتصر على الشيطان إلا من انتصر على نفسه وهواه، ولن ينتصر في الجهاد أحد حتى يجاهد نفسه وهواه، وبعض العلماء قالوا: إن خالداً وانتصاراته التي انتصر بها على الكفار لا تداني انتصاره على نفسه عندما عزله عمر، فعندما عزله عمر أصبح جندياً كأي جندي في الجيش، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) لأنه لا يريد إلا رضا الله جل وعلا، فلذلك نزل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة تحت إمرة عمرو بن العاص، وفي ليلة شاتية شديدة البرودة، قام عمرو بن العاص فوجد نفسه جنباً، فقال: كيف أصلي بالناس؟! لا بد أن أغتسل، فذهب فوجد الماء بارداً، فقال: قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، فتيمم مع وجود الماء فصلى بهم وهو جنب، مع أنه علمياً لا يصح التيمم مع وجود الماء، ونحن الآن نترك الضرورة لأننا لا نعرفها، فلما ذهب عمرو بن العاص قص على النبي صلى الله عليه وسلم القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت بالناس وأنت جنب؟ فقال عمرو رضي الله عنه وأرضاه: تذكرت قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وكان البرد شديداً)، فبين له أنه لو اغتسل في شدة البرد لكان من الممكن أن يموت من شدة البرد، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لفعل عمرو بن العاص، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يكون حكماً عاماً للأمة، أي: لو قام الرجل جنباً ووجد الماء بارداً جداً، وليس عنده غاز وليس عنده سخان وليس عنده أي شيء، ولا يستطيع أن يغتسل بهذا الماء البارد، فله أن يتيمم، فيأخذ التراب، أو على قول المالكية: فيما صعد على الأرض، ويضرب ضربة ويتيمم ويصلي، فيكون حكماً عاماً بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفعل عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه.
وفي سنن أبي داود أيضاً مثال: عباد بن بشر وعمار بن ياسر عندما كانا مرابطين، فنام عمار وقام عباد فصلى، فافتتح القراءة فجاء أحد الكفار فضربه بسهم أو برمح فنزف دماً، وما ترك الصلاة حتى استيقظ عمار فقال: لم لم توقظني؟ قال: ما أردت أن أقطع الصلاة أو القراءة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأقرهما على ذلك، فنحن نحتج بهذا الحديث، مع أن بعض مشايخنا يرى أن الدم نجس، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، لكن الشيخ يقول: المسألة بإجماع الفقهاء أن الدم نجس، وهذا الإجماع فيه نظر كبير، بل الحسن البصري وغيره من السلف، يقولون: بأن الدم طاهر، والصحيح الراجح أن الدم طاهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر رجل صلى ودمه ينزف، وعمر بن الخطاب لما طعنه هذا الملعون البئيس أبو لؤلؤة وكان جرحه ينزف دماً، فصلى بهذا الدم، وكان ابن مسعود بسند صحيح يذبح الجزور ويلطخ بدمها وما فيها، ويقوم يصلي ولا يغير ثيابه، فهذه دلالة على أن الدم طاهر.
والدليل الآخر على أن الدم طاهر: أن الأصل عدم النجاسة حتى يأتينا الدليل بالنجاسة، ولا دليل إلا في دم الحيض، ونحن نتفق على أن دم الحيض نجس؛ لأن التصريح جاء به، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]، وحديث أسماء أو غيرها عندما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرصيه ثم انضحيه بالماء) قالت: دم الحيض يصيب الثوب، فأمرها -كما في صحيح مسلم - النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تحكه وتقرصه وتنضحه بالماء، فهذه دلالة على أنه نجس، ونحن نتفق أن دم الحيض نجس.
لكن حديث عباد بن بشر وعمار بن ياسر يدل دلالة قوية على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصلاة بالدماء، وأن الدم ليس بنجس، وممكن يستشكل علينا من يقول بأن الطهارة في الثوب ليست شرطاً في صحة الصلاة، لكن رأي الجمهور على أنها شرط لصحة الصلاة، والصحيح الراجح كما قلت أن الخلاف فيها قوي، لكن القول: بأن في المسألة إجماع، وأن القول بطهارة الدم بدعة، فهذا كلام مستعجب، وكلام يتعجب منه المرء؛ لأنه ورد عن السلف بأسانيد صحيحة أن الدم طاهر وليس بنجس، فكيف يقال أنه بالإجماع، والخلاف فيه قوي جداً، وإن كنت تريد رداً على المعترض، فأنا أريد الدليل الذي يعترض به المعترض.
فإن قال قائل: الدليل قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145].
قلنا: نحن نقول معك: إن الدم المسفوح رجس، ولكن الرجس لا تدل على أنه نجس، فالخمر طاهر وقال فيها إنها رجس، وهناك بحث عالٍ جداً يبين أن الكحول والخمر طاهرة، والشوكاني رد على من اعترض بهذه الآية وقال: اللغة لا تبين أن الرجس نجاسة، بل يشترك النجس وغيره، فهي ليست فصلاً للنزاع بل هي محتملة، والمحتمل لا يقصد به فض النزاع، ولا بد أن تأتي بدليل قاطع عليه، والدليل القاطع إنما هو في دم الحيض، ونحن نتفق على أن دم الحيض نجس، وكذلك الشهيد، ففي الحديث: (أن يبعث يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك) والأصل الطهارة وعدم النجاسة، فلا تحلني ولا تنقلني عن الأصل إلا بدليل أوضح من شمس النهار، ونحن قلنا: إن استصحاب الأصل من أقوى الأدلة إلا أن يكون هناك دليل تنقلني عنه من الأصل إلى ما تقول به أنت.
والغرض المقصود: أن الحديث فيه إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم على فعل عباد بن بشر.