وهنا مسائل تختص بأول أصل من الأصول في الأدلة، ومنها: المسألة الأولى: حكم القراءة الشاذة، هذه المسألة تتعلق بأصل الأصول وهو القرآن، والقراءة الشاذة: هي القراءة التي نقلت إلينا بغير التواتر، فتسمى عند العلماء قراءة شاذة.
ومثال هذا القراءات: الزيادة في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فهذه قراءة شاذة؛ لأنها لم تنقل إلينا بالتواتر.
وقد اختلف العلماء في حكم القراءة الشاذة بعدما اتفقوا أنها ليست من القرآن، وعلى هذا فلا تأخذ هذه القراءات حكم القرآن، أي: لا يتعبد بتلاوتها.
جمهور أهل العلم يرون أن القراءة الشاذة ليست بحجة.
وذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية والجمهور من الأحناف إلى أنها حجة ويعمل بها في الأحكام، وهذا له أثره في الخلاف الفقهي.
من الأدلة التي استدل بها الجمهور: أولاً: أنها افتقدت شرطاً من شروط القرآن.
وهو: التواتر، فلا تأخذ حكم القرآن، والقرآن هو الحجة وغيره ليس بحجة.
ثانياً: أنها لم تضف لا للمشرع، ولا لنقل الشرع على الراجح أصولياً، ومعنى: (لم تضف إلى المشرع) أي: الله، ومعنى: (لم تضف إلى ناقل الشرع) على الراجح من أقوال أهل العلم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك: أن الذي أقرأها لا يقول: إنها من القرآن، وكذلك لا يقول: قال الله تعالى، ولا يقول: إنها من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حجة جمهور الحنابلة والأحناف وبعض الشافعية فقالوا: تنزل القراءة الشاذة منزلة الحديث الحسن، فحكمها حكم الحديث المرفوع، والحديث المرفوع حجة في الأحكام.
والصحيح الراجح من أقوال أهل العلم هو: قول الجمهور: بأن القراءة الشاذة ليست بحجة؛ لأنها فقدت شرط القرآن، والقرآن هو الحجة، فهو يأتينا بالتواتر، فإذا فقد شرط التواتر فليس من القرآن، وكذلك الذي يقرأ بها لا يقول: قال رسول الله كذا، فكيف ننزلها منزلة الحديث الحسن؟! فالصحيح الراجح: أن القراءة الشاذة ليست بحجة في الأحكام، ويظهر هذا الخلاف بالمثال، قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89]، ثم قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89]، ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] قرأها ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فانظر إلى المثال هنا، ابن مسعود يقرؤها: (متتابعات) والقراءات العشر لم يأت فيها هذا اللفظ، فالقراءة هنا قراءة شاذة، إذاً: الذي فقد الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة مآله في الكفارة إلى صيام ثلاثة أيام ولا يلزمه فيها التتابع، فممكن أن يصوم الثلاثة الأيام متفرقات، فهذا قول الجمهور؛ لأن عندهم أن قراءة ابن مسعود: (ثلاثة أيام متتابعات) هذه قراءة شاذة.
وطالما هي قراءة شاذة إذاً: لا حجة فيها، فنقول: يجوز له أن يصوم ثلاثة أيام متفرقات، أو يصوم متتابعات وهذا أولى له، لكن إن فرق الأيام لا نلزمه بالتتابع.
أما الحنابلة والأحناف فيلزمون من يكفر عن يمينه بالتتابع؛ لأن عندهم أن قراءة ابن مسعود وإن كانت شاذة فهي حجة، وكيف تكون حجة؟ قالوا: تنزل منزلة الحديث الحسن، والحديث الحسن ولو كان آحاداً فهو حجة فيلزم العمل به، ونحن لا نوافقهم على هذا الإنزال، ونقول: طالما فقد شرط التواتر فلا حجة فيه.
وقراءة ابن مسعود تكون من اجتهاده وهو قول له، فإن كانت القراءة قولاً لـ ابن مسعود فلا نلزم به؛ لأن الحجة في القرآن وفي السنة، وقول الصحابي فيه اختلاف إذا لم يخالفه أحد، فإذا خالفه أحد فمن باب أولى ألا يؤخذ ولا يكون حجة؛ لأن كلاً يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب القبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا: يشكل علينا حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت تقول: (كان مما نزل من القرآن عشر رضعات مشبعات يحرمن، فنسخن إلى خمس رضعات مشبعات، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يتلى من القرآن).
ابن حزم وأهل الظاهر وجمهور المالكية يقولون: إن الذي يحرم في الرضاع مصة أو مصتان أو ثلاث مصات، وحديث عائشة لا يؤخذ به؛ لأنه ليس بقرآن، ونحن نأخذ به فنقول: لا، خمس رضعات مشبعات يحرمن، أما يشكل علينا هذا؟ نقول: هذا ليس بقرآن فكيف يكون حجة؟ ونحن قعدنا قاعدة وقلنا: إما أن يكون قرآناً بالتواتر فهو حجة، وإما أن يكون حديثاً، وهذا ليس بقرآن ولا حديث، فكيف نحتج به؟ وعلماء جمهور الشافعية الذين يقولون: بأن القراءة الشاذة ليست بحجة يحتجون بحديث عائشة على أن خمس رضعات مشبعات يحرمن فكيف يجاب عن هذا الإشكال؟
صلى الله عليه وسلم نقول: الحجة ليس في قول عائشة، وإنما الحجة في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم، ويلمح قول عائشة على أنه مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مما يتلى، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بذلك، فهو يعتبر في حكم الحديث المرفوع؛ لأن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة، والسنة تنقسم إلى سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة إقرارية، وهذا من باب السنة الإقرارية، فهي إذا فقدت الشرط الأول الذي هو التواتر، فإن الشرط الثاني موجود، وهو: الإضافة إلى ناقل الشرع، وهو الإضافة إلى الله أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يشكل علينا حكم حديث عائشة رضي الله عها وأرضاها.