الجمع بين الأدلة

يعتبر الجمع بين الأدلة من أقوى ما يستعملها العلماء، والجمع إنما يكون من المجتهد.

مثال ذلك: ورد في الأحاديث عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط) يعني: لا يجوز أن يتبول المرء ولا أن يتغوط وهو مستقبل القبلة أو مستدبرها، قال أبو أيوب الأنصاري: (فذهبنا إلى الشام فوجدنا الكنف -المراحيض- مستقبله بين بيت المقدس مستديرة الكعبة، قال: فكنا ننحرف ونستغفر الله)، أي: نستدير حتى لا نستقبل ولا نستدبر.

فهذا الحديث يدل على تحريم استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، وهو على عمومه، سواء كان ذلك في الصحراء أو في غير الصحراء، في الكنف أو في غير الكنف.

وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (صعدت على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً القبلة).

إذاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا ظاهره أنه يخالف قوله، فقد حرم على الناس أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها.

فللعلماء في الجمع بين هذين الحديثين اللذين ظاهرهما التعارض مسالك كثيرة منها: الأول: ما تبناه الشوكاني في قواعده الأصولية: أنه إذا خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله، ففعل النبي خاصه به، والقول على العموم.

أي: فعل النبي الذي رواه ابن عمر خاص بالنبي، وما من أحد من الأمة يستطيع أن يفعل ذلك، وقول النبي: (لا تستقبلوا ولا تستدبروا) عموم لكل الأمة.

إذاً: أبقى النهي على ما هو عليه، وجعل فعل النبي الذي رواه ابن عمر خاص به، وهذا الجمع ضعيف جداً.

الثاني: من العلماء من قال: نرجح الحاظر على المبيح، وحديث أبي أيوب حاظر وحديث ابن عمر مبيح، وهذا أيضاً ضعيف.

الثالث: ما ذهب إليه الشافعي: بالتفريق بين البنيان وغير البنيان، يعني: يفرق بين الكنف والفضاء.

فمثلاً: لو سافر رجل للحج ثم نزل يقضي حاجته، ممكن أن يستقبل أو يستدبر، هذا الحكم هنا، أما إذا كان في البنيان فإن الحكم يختلف، هذا قول الشافعية وبعض الحنابلة، وهم قول قوي جداً؛ وإن كان هناك قول بالتفريق بين البول والغائط، لكن نقول: الصحيح الراجح في ذلك: التفريق بين البنيان وغير البنيان، والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استقبل بيت المقدس واستدبر الكعبة، فإن قالوا: أليس يكون الفعل على الخصوص؟ قلنا: لا؛ لأن الأصل عدم ذلك إلا إذا وجدت قرينة، والأصل عدم الخصوص، ولا يوجد حكم يختص به إلا إذا دل الدليل.

مثال ذلك: المرأة الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب:50] فبين بالنص التخصيص له، فإن كان الأصل التخصيص احتيج إلى دليل يبين التخصيص.

فالصحيح في ذلك: أن الأصل عدم الخصوص، فيكون فعل النبي يبين لنا جواز استقبال القبلة ببول وغائط، واستدبارها في الكنف والمراحيض التي في البنيان، أما في الصحراء فلا يجوز لقول أبي أيوب الأنصاري: (لا تستقبلوا ولا تستدبروا).

ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه.

وابن عمر كان في الصحراء وأناخ راحلته، وقضى حاجته مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً الكعبة، ثم قال: ما تعلمون عن ذلك؟ ذاك في الصحراء، يعني: إن لم يكن هناك ساتر، وابن عمر هو الذي روى حديث حفصة، وهو عالم بحديث أبي أيوب الأنصاري، فهذا دلالة على فهم ابن عمر الأثري: أن المسألة فيها تفريق بين البنيان وغيره.

مثال آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يشرب قائماً فقال له: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: يشرب معك من هو أشر منه، الشيطان).

ثم نهى بالتصريح عن الشرب قائماً، فقال: (من شرب قائماً فليستقيء).

فهذه دلالة على التحريم، لكن جاء دليل آخر بأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً من شن معلقة، ومن لا يأخذ بالجمع -مثل الشيخ الألباني - أخذ بقاعدة: الحاظر يقدم على المبيح، والقاعدة هذه وجه من وجوه الترجيح.

لكن نقول له: إن العلماء في الأدلة التي ظاهرها التعارض لهم خطوات ثلاث مرتبة، وهي أيضاً على التخيير: الأولى: الجمع.

الثانية: النسخ.

الثالثة: الترجيح.

وهو قد أخذ بالتخيير فرجح دون أن يبدأ بالأولى والثانية.

ونقول له أيضاً: نحن معك في هذه القاعدة، ونتفق على أن الحاظر يقدم على المبيح، لكن عندنا أن الجمع أولى، وهو: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وسنقول: بكراهة الشرب قائماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل محرماً.

لكن قد يقول آخر: قد يفعل مكروهاً، لكن لو قلنا: هذا الفعل مكروه، من الذي يكرهه؟ الله جل وعلا هو الذي يكرهه، فكيف تفعل فعلاً يكرهه الله جل وعلا، وكيف فعل النبي شيئاً يكرهه الله؟ نقول: هو في حق النبي ليس مكروهاً، بل هو مأمور شرعاً أن يبين ذلك، بل هو في حقه بيان للتشريع، وفي حقه فضل ونعمة؛ لأنه يبين للناس حتى لو ضاق الأمر بأحدكم فشرب قائماً فلا يخشى على نفسه من الإثم، بل هو مكروه فقط، فينقل من التحريم إلى الكراهة، وهذا أيضاً ما قاله العلماء وفي الحديثين السابقين، قالوا: إن استقبال القبلة واستدبارها في الكنف على الكراهة، وهذا أيضاً من طرق الجمع، قالوا: في البنيان على الكراهة، وفي الصحراء على التحريم.

إذاً: أول الطرق الجمع بين الدليلين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015