القسم الثاني: المخصص المنفصل من السنة، لا خلاف بين العلماء أن القرآن يخصص بالقرآن، ويخصص بالسنة المتواترة، لكن الخلاف بين العلماء في تخصيص القرآن بسنة الآحاد، فأما الأحناف: فلا يرون التخصيص بالآحاد، ويقولون: إن حديث الآحاد لا يخصص القرآن، لكن استثنوا ما إذا خُصص هذا القرآن بدليل من القرآن؛ لأنه إذا خصص بدليل من القرآن سيضعف، فإذا ضعف نزل إلى مرتبة حديث الآحاد فيخصصه.
أما المالكية: فلا يرون بحال من الأحوال أن القرآن يخصص بسنة الآحاد إلا إذا كان عمل أهل المدينة يوافق خبر الآحاد.
وأروع الأمثلة التي أستحضرها الآن للمالكية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير).
يقول الإمام مالك: إن هذا الحديث لا يخصص عموم قول الله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ} [البقرة:168] ويأتي إلى هذا الحديث ويقول: ما أدركنا أحداً من أهل المدينة يعمل به، ثم يقول: هذا حديث آحاد لا يخصص العموم.
إذاً: عنده أن كل موجود على الأرض حتى القطط وغيرها يحل أكلها.
أما القول الراجح: فهو قول الشافعية وقول الحنابلة بأن القرآن تخصصه السنة؛ لأن السنة والقرآن وحي من الله جل وعلا، فهما خرجا من مشكاة واحدة، فيصح تخصيص هذا بذاك، ويصح تخصيص الآخر بالأول، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، يعني: كل ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب أو سنة يؤخذ، وقال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، والتبيين من الكتاب ومن السنة، وأيضاً من الحديث القدسي، فهذا كله يدل على أنه خرج من مشكاة واحدة فيخصص.
مثال: قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11].
قوله: (أولادكم) اسم جنس مضاف وهو يفيد العموم، أي: يعم المسلم والكافر، والرقيق وغير الرقيق.
لكن هذا العموم خص بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) فهذا فيه تخصيص من عموم الآية بأن الكافر لا يرث.
مثال آخر أيضاً: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
ووجه الاستدلال أن جميع أنواع البيع حسب الآية حلال، ولكن هذا العموم خص من قبل السنة الآحادية بنحو: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع الغرر)، فبيوع الغرر مخصوصة من عموم حل البيع.
وأيضاً: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم)، فالذي يتبرع بالدم ويأخذ أجرة على ذلك حرام؛ لأن ثمن الدم مخصوص من قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}.
كذلك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب) فهذا مخصوص من عموم الآية.
مثال آخر: قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] فهذا عام في كل ميتة، لكن جاءنا حديث فخصص الآية، وهو (أحلت لنا ميتتان ودمان) وإن كان الحديث فيه ضعف لكن عضد بشواهد فارتقى إلى الحسن، فقوله: (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فهما السمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال)، فهذا الحديث روي بسند صحيح عن ابن عمر موقوفاً، وله شواهد يرتقي بها المرفوع.
إذاً: هذا الحديث خصص عموم قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] فيخص من الميتة الجراد والسمك، ومن الدم الكبد والطحال.
مثال آخر أيضاً: قال تعالى عن النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24] قوله: (ما) من الأسماء المبهمة، فهي تعم كل ما وراء ذلك، فتعم كل النساء اللاتي لم يذكرن في التحريم في الآيات السابقة، لكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها) فهذا التخصيص من عموم قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24].