أنواع الاستصحاب

الاستصحاب على أنواع أربعه: النوع الأول: استصحاب الإباحة الأصلية في الأشياء.

ومعناه: كل شيء في هذه الدنيا حكمه مباح لنا، سواء من مطعم أو مشرب أو ملبس أو غيرها.

والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] فكل شيء خلقه الله جل وعلا لنا، وامتن علينا حيث قال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168]، وقول الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فكل هذه الآيات تدل على أن كل شيء من ملبس ومشرب ومأكل حلال مباح.

فمثلاً: إذا حرم رجل التفاح على نفسه فنقول له: ائتنا بدليل الحرمة، فإن الأصل الإباحة، وإذا قال: ما هو الأصل الإباحة؟ فالإجابة: استصحاب الأصل بالدليل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ} [البقرة:168].

مثال آخر: رجل رأى رجلاً ارتدى ثياباً فيها شيء من الحرير، فالأصل في الملبس الحل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ولكن هناك دليل على حرمته وهو: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير للرجال).

مثال آخر: أكل كل ذي ناب من السباع، الأصل أنه حلال حتى يأتينا الدليل على الحرمة، وقد جاء الدليل بالحرمة: (أن النبي صلى عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع)، كذلك أكل الهرة فهي ذات ناب، ولا يجوز أكلها.

النوع الثاني: استصحاب العدم الأصلي، أي: أن الأصل عدم الإلزام حتى يأتي الدليل بالإلزام، والأصل عدم شغل الذمة بشيء حتى يأتي الدليل على شغل الذمة به، والعمدة في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) مثلاً صاحب متجر جاء إليه رجل، ولم يشتر منه شيء، فقال له: أنا أعطيتك ألف جنية لتعطيني -مثلاً- الخاتم الذي عندك، فقال البائع: ما أعطيتني شيء، فهنا القول قول البائع؛ لأن الأصل عدم الشراء، والأصل البراءة الأصلية، والأصل مع البائع إلا أن يأتي المشتري بزيد وعبيد، فيشهدا على البائع، ويكون القول قول المشتري؛ لأن الأصل براءة ذمة البائع حتى يأتي الدليل الذي ينقلنا عن هذا الأصل، فجاء الدليل وهي البينة، فنقلتنا عن الأصل إلى ما أثبته الدليل وهو البينة.

مثال آخر: ذمة الإنسان غير مشغولة بحق إلا ما قام الدليل على شغل هذه الذمة، بمعنى: فاطمة جاءت لمحمد فقالت: أنت زوجي فصرخ في وسط الشارع وقال: هذه المرأة تدعي أني زوجها وأنا لست بزوجها، فالأصل براءة الذمة وهو عدم الزواج حتى تأتي بشهود تثبت أن هذا الرجل هو زوجها، أو تأتي بعقد الزواج.

النوع الثالث: استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي، حتى يثبت خلافه.

مثاله: رجل يسكن في شقة منذ مدة طويلة، فجاء خمسة رجال يريدون إخراجه من هذه الشقة، وذلك بحجة أنها شقتهم، فوجوده في الشقة ثبتت بها الملكية له، والأصل أنه بوصف -أنه موجود فيها- قد ثبتت ملكيته على هذه الشقة، فلا يخرج منها حتى يأتون ببينة.

مثال آخر: رجل تزوج امرأة فقال: لي فيك كل شيء، فأراد منها ما يريد الزوج من زوجه، فقالت: لا يصح أن تأتيني ولا تقربني، فالأصل في عقد النكاح حل المرأة كلية لزوجها ولا يمكن أن تحرم عليه شيء، إلا ما جاء الشرع بتحريم شيء معين، وقد جاء الشرع بتحريم: (اتق الحيضة والدبر)، فهذان محرمان أن يأتي الرجل زوجه فيهما.

النوع الرابع: استصحاب الدليل، وذلك يأتي دليل يحرم أو دليل يحل، فنستصحب هذا الدليل، ونعمل به حتى يأتي دليل يناقض هذا الدليل، وقد استنبط منها العلماء مسائل كثيرة جداً منها: بقاء العام على عمومه حتى يأتي المخصص فنعمل به، وبقاء المطلق على إطلاقه حتى يأتي مقيد يقيده، وبقاء الواجب على وجوبه حتى يأتي صارف يصرفه إلى الاستحباب، وبقاء المحرم على تحريمه حتى يأتي صارف يصرفه إلى الكراهة، وكذلك استصحاب الدليل الشرعي، كأن نقول: الأصل في ذبائح أهل الكتاب أنها حرام، لأن الله قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} [الأنعام:121]، فلا يجوز أن تأكل إلا ما سميت؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت اسم الله -أو ذكرت اسم الله- فكل).

إذاً: اشترط عليه شروط حتى يأكل، وطالما أن الأصل العام للذبائح الحرمة، فأستصحب الأصل حتى يأتيني دليل ينقلني من الحرمة إلى الحل.

وقد جاء الدليل ونقلني عن الأصل في ذبائح أهل الكتاب، والدليل هو قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُم} [المائدة:5]، مطلقاً، سواء كان مذبوحاً أو غير مذبوح، وقوله: (طعام) جمع مضاف معرف بالإضافة، فيعم كل أطعمة أهل الكتاب إلا ما دل الدليل على حرمته كالخنازير.

إذاً: فكل اللحوم المستوردة حلال ما لم يثبت دليل على الحرمة، كالذبائح التي يذبحونها بالصعق أو بالسم أو بالكهرباء، فإذا ثبت لنا أنهم لم يذبحوا الذبيحة بالطريقة الإسلامية فهي محرمة.

وهذا هو التأصيل العلمي الصحيح.

ومن الأمثلة: الأصل في لبس الحرير الحل، ثم انتقل بدليل من الحل إلى الحرمة بالنسبة للرجال، فأصبح الأصل في لبس الحرير للرجال الحرمة، والدليل: أن الزبير وعبد الرحمن بن عوف اشتكيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحكة، فأذن لهما في لبس الحرير، فهنا مستثنى.

فالأصل الحرمة حتى يأتي دليل على النقل، والنقل جاءنا من الضرورة، وأباح النبي صلى الله عليه وسلم حوالي ثلاثة أصابع خيوط حرير يلبسها الرجال، فهذا يكون نقلني عن استصحاب الأصل، أي: استصحاب الدليل الشرعي، سواء الحرمة أو الوجوب أو غيره.

ومن الأمثلة أيضاً: وجوب التسمية قبل الوضوء، ورجح هذا القول بعض الحنابلة والألباني، وسيقول أصحاب هذا القول: الأصل أنني ألزمك بالتسمية، وعندي الدليل على ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)، فأقول: هذا الدليل ضعيف ضعفه أساطين أهل العلم من المحدثين قديماً، وإن قلنا بتصحيحه فإنه يئول؛ لأن الحديث المضعف أو المصحح الذي لم يسلم من المعارضة لا يصح أن ألزم به الناس؛ لأن الإلزام أمر لا بد له من دليل أوضح من شمس النهار، فهي مستحبة وليست لازمة، فنرجع للبراءة الأصلية من الكتاب، وهو أن الكتاب ألزمني بغسل الوجه فقط ولم يلزمني بالتسمية، فالأصل معي والناقل لم أوافق عليه، فأبقى على الأصل واستصحاب الأصل.

مثال آخر: قراءة الحائض للقرآن، الأصل الحل ما لم يأت دليل يثبت النقل، والأدلة كثيرة جداً تنص على حرمة قراءة القرآن للمرأة الحائض.

والغرض المقصود أن أقول: الأصل معي ولا أنتقل من الأصل حتى يأتيني الدليل الذي ينقلني عن الأصل.

إذاً: هذا النوع الأول من الاستصحاب: استصحاب الإباحة الأصلية في الملبس أو المطعم أو المشرب أو في المعاملات أو في العقود، فكل عقد فهو حلال حتى يأتي الدليل على تحريمه، وكل شرط حلال ما دام يوافق كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل مطعم ومشرب وملبس فهو حلال حتى يأتيني دليل الحرمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015