اختلف العلماء في حجية المصالح المرسلة، فقالت الشافعية والأحناف: إنها ليست بحجة، إذ أن كل المصالح قد ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وذكرها رسوله في سنته.
ولو دققنا النظر لوجدنا أن الخلاف إنما هو في الاصطلاح فقط، بل الأئمة الأربعة يقولون ويعملون بالمصالح المرسلة كما سنبين، فلا داعي للدخول في مسألة الخلاف، لكن المالكية والأحناف أكثر الناس أخذاً بالمصالح المرسلة.
فالمصلحة ليست دليلاً مستقلاً، لكنها تابعة لأصول الدين، وهذا بالاتفاق، لكنهم اختلفوا في الاصطلاح فقط، فالمالكية يقولون: هي دليل مستقل.
والأحناف والشافعية يقولون: ليست دليلاً مستقلاً، وعند النظر إلى بعض الصور نرى فيها المصالح المرسلة، وقد أفتى بها الشافعية والأحناف الذين ينكرون المصالح المرسلة، وأفتى بها المالكية الذين يعملون بالمصالح المرسلة.
ومن هذه النماذج: ما قاله الأحناف بجواز حرق ما يغنمه المسلمون من متاع ومال وغنيمة إذا عجزوا عن حملها إلى بلادهم، أي: إن كانوا في بلاد الكفر وغنموا منهم بقراً وبعيراً وغنماً وأموالاً وذهباً وأشياء كثيرة جداً لا يستطيعون حملها، فقد أفتى الأحناف بحرقها، مع أن هذا يخالف النهي عن قتل الحيوان، كما أن إتلاف المال محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
فإتلاف المال لا يجوز، لكن نحن نقول: عندنا مصلحة أكبر من ذلك، وهي: إضعاف اقتصاد الكفار؛ لأن الكفار إذا تقووا بهذه الأموال والغنائم سيخرجون علينا مرة ثانية، ويهدمون لنا الدين، ونحن لا نقاتلهم إلا من أجل رفعة الدين.
أكثر من ذلك: هم يقولون ذلك استحساناً، وهذه هي المصالح المرسلة؛ لأن الشارع لم يأت عليها إلغاءً ولا اعتباراً، وإنما جاء عليها إلغاءً في أموال المسلمين وليست في أموال الكفرة، ولكن لو علمنا يقيناً أن الكفرة سيعودون ثم يتحكمون في هذه الأموال فيقوى اقتصادهم فيميلون علينا ميلة واحدة فلنا تحريق هذه الأموال.
كذلك أفتى الشافعية بنفس الفتوى، مع العلم أنه قد نهي في الشرع عن حرق الشجر وقتل النساء وغير ذلك، لكن للمصلحة الأكبر أفتى الشافعي بإحراق وإتلاف الأشجار والأرض إن كان أهل الكفر سيستفيدون بها دون أهل الإسلام.
ولهم أصول عامة تدل على ذلك، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والأطفال، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! إنا ندخل القرية فنبيِّت القوم فيكون معهم الأطفال والنساء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هم منهم) أي: لو قتلتموهم لا شيء عليكم، مع أنه ورد في الأحاديث النهي عن قتل النساء والأطفال، لكن لما كانت المصلحة الأعظم والأكبر في إهلاك أعداء الله جل وعلا، ولا يهلكون إلا بإهلاك الأطفال والنساء الذين معهم قال: (هم منهم) طالما هي المصلحة الأكبر.
وهذه تبين لك الآن أن فتاوى كثيرة يميناً ويساراً ليس لها زمام، لكن نحن لا نتكلم عن حكم هذه المسائل الآن.
الغرض المقصود: أن هذا الفعل تظهر فيه المصلحة.
أيضاً أفتى المالكية: بجواز بيعة المفضول مع وجود الفاضل، وهذا أقرب ما يكون على علي ومعاوية، فـ علي أفضل بكثير من معاوية رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك بايع أهل الشام معاوية، ثم بايع الناس بعد ذلك معاوية وفيهم من هو أفضل منه وهو الحسن، كذلك ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يضاهي علي بن أبي طالب في مكانته، وإن كان علي بن أبي طالب لا يضاهيه أحد في مكانته في تلك الآونات، لكن ابن عمر ليس بالهين ومكانته عالية جداً؛ فـ ابن عمر أفضل من معاوية، ومع ذلك بايع الناس معاوية وتركوا ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
أيضاً أجاز المالكية: فرض الضرائب رغم أن هناك نهي عام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، لكنهم أفتوا بجواز أخذ الضرائب بشروط، وهذا من باب المصالح المرسلة؛ لأن الأصول العامة تؤكد هذه الفتوى، فلو أن خزانة بيت المال أصبحت ضعيفة، واحتاج الجند في الجهاد إلى التجهيز ولا مال في بيت المال، أو أن الأموال التي في الخزانة لا تكفي المئونة، فلولي الأمر أن يفرض الضرائب على الأغنياء أولاً، فإن لم يكتف بيت المال من الأغنياء فله أن يعود إلى الفقراء فيفرض عليهم، لكن الحال مقلوب الآن، ففرض الضرائب هو على الفقراء دون الأغنياء.
والصحيح أن نقول: إن فرض الضرائب من باب المصالح المرسلة عند خواء بيت مال المسلمين، ثم مع عدم الاكتفاء من الأغنياء، للوالي أن يأخذ من الفقراء ويفرض عليهم الضرائب.
أيضاً الحنابلة يفتون: بأن الوالي له أن يجبر المحتكر أن يبيع السلعة بسعر المثل، وفي الشرع لا تسعير، لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا، قال: إن الله هو المسعر -ثم قال:- لا أحب أن يأتي أحدكم بمظلمة على يوم القيامة)، فالله هو المسعر والتسعير لا يجوز، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: يجوز للمصلحة العامة أن يسعر ولي الأمر في السلع، حتى لا يضر بالمجتمع، فنظر إلى المصلحة الأكبر فقدمها، وهذه فتوى أحمد بن حنبل.
وقد سبق الأئمة الأربعة بالفتاوى في المصالح المرسلة الصحابة: أبو بكر وعمر، فقد جمعوا القراءات في مصحف واحد، ثم جاء عثمان رضي الله عنهم أجمعين فجمع الناس على مصحف واحد، وهو المصحف العثماني.
وأيضاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمضى الطلاق ثلاثاً، وجلد ثمانين في الخمر، وحلق لـ نصر بن حجاج.
واتفق الأئمة الأربعة على تضمين الصناع بفتوى علي بن أبي طالب للمصلحة، ولذلك علي بن أبي طالب قال: لا يصلح الناس إلا مثل ذلك، أي: عند تضمين الصناع.
فالخلاصة: أن المصالح المرسلة حجة إذا كانت تستند إلى الأصول العامة من الشريعة، وكانت مصلحة متحققة لا متوهمة، ولم يأت الشرع بإلغائها.