شروط القياس

والقياس له شروط، ومن شروط القياس: أولاً: أن يكون الأصل قد ثبت بنص: كتاب، أو سنة، أو إجماع، إلا أن الإجماع ليس نصاً، لكنه دليل على النص، وهذا على قول الجمهور.

ومثاله: الإجماع على أن الإسورة والطوق حلال، وبناءً عليه نقول: إن الإسورة أصل؛ لأنها تحل بالإجماع، فيلحق بها الفرع وهو: الخلخال، فيكون حلالاً.

ومن الأمثلة أيضاً: (الورق بالورق ربا) والورق هو: الفضة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الفضة بالفضة ربا إلا أن تكون يداً بيد مثلاً بمثل) أي: يشترط التقابض في المجلس، والمساواة.

فالفضة أصل؛ لأنها ثبتت بالنص، والدولار فرع، فيلحق بها.

ثانياً: أن يكون الأصل له علة، والعلة لها صفات سيأتي الكلام عنها، ولما أقول: لا بد أن يكون الأصل معللاً، يخرج بذلك: الأمر التعبدي، مثل: وضع اليد اليمني على اليسرى في الصلاة، فلا نقول لمن كان خارج الصلاة: لا بد أنه يمشي وهو واضع يده اليمنى على اليسرى تحت الصدر كما في الصلاة؛ لأن الأمر هنا تعبدي، ولا توجد علة للإلحاق.

فإن قيل: إذا أصاب لعاب الكلب الثوب فهل يقاس على ولوغه في الإناء؟ نقول: غسل الإناء عند جمهور أهل العلم أمر تعبدي، لكن الشيخ أحمد شاكر بين أن له علة، إذ أن لعاب الكلب يسبب الدودة الشريطية، ولا يميتها إلا الغسل بالتراب مع السبع الغسلات، فالثوب إذا وقع فيه لعاب الكلب يغسل سبعاً ويعفر الثامنة بالتراب.

ومن الأمور التعبدية: الركوع قبل السجود، وتقبيل الحجر الأسود، ولهذا قال عمر: (إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).

ومن الأمور التعبدية: الغسل من خروج المني بشهوة، فلا يلحق به خروج المذي أو الودي، فلا نقول: عليه الغسل، إلحاقاً للفرع بالأصل الذي هو: نزول المني من مكان معلوم، ونزول المذي من مكان معلوم، والمني ينزل بشهوة والمذي ينزل بشهوة، فيلحق المذي بالمني؛ لجامع الشهوة؛ لأن هذا الحكم تعبدي غير معلل.

وضرب بعض المشايخ أيضاً مثالاً آخر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من لحم الجزور، وهذا هو قول الحنابلة وهو الراجح، مع أن جمهور الفقهاء على أن الوضوء مما مست النار كان أول الأمر ثم نسخ.

والنووي رجح القول بالوضوء، والعلماء يقولون: إنه لا يخرج عن الشافعية قيد أنملة، لكن لا يجبره على الخروج إلا الدليل، وقد خالفهم أيضاً في مسألة سجود السهو، فقال: الحجة مع الشافعي والأقوى مع مالك، فأقوى الكلام على سجود السهو للمالكية ثم الشافعية.

فبعض العلماء قال: يجب الوضوء من لحم الجزور؛ لأنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلقت مما خلق منه الجان) فبعضهم علل الأمر بالوضوء بهذا، لكن الصحيح الراجح أن الأمر تعبدي وليس بمعلل، فمن قال مثلاً: إذا أكل الرجل لحم النعامة توضأ منه، قياساً على لحم الجزور، نقول له: قياسك باطل؛ لأنه فقد شرط: العلة.

ثالثاً: أن تكون العلة مناسبة للحكم، أي: أن الحكم يوجد معها حيث وجدت، وينتفي حيث انتفت، فتكون العلة موجودة طرداً وعكساً، ففي الدولار العلة الثمنية، إذاً: لابد فيه من المثلية والتقابض في المجلس، والعلة هي الثمنية، فإذا وجدت وجد الحكم الذي هو وجود التقابض في المجلس والمساواة، فالدولار بالجنيه يصح بشرط التقابض في المجلس؛ لأن العلة هي الثمنية فهي متفقة، فالدولار بالجنيه لابد أن يكون في المجلس ولا يصح أن يكون نسيئة، وجوداً وعدماً.

فدولار بدولار لا بد من شرطين: أن يكون هناك مساواة، ولا بد من التقابض في المجلس، ودولار بجنيه أو بألف جنيه يصح لكن بشرط التقابض في المجلس للعلة التي بيناها.

أيضاً: إذا وجد الإسكار أصبح خمراً وأصبح محرماً، وإذا انتفى الإسكار انتفى التحريم، فشراب الموز حلال؛ لأن علة الإسكار منتفية فانتفى الحكم، وإذا وجد الإسكار في البيرة يوجد الحكم وهو التحريم؛ لأن العلة إذا وجدت وجد الحكم.

إذاً: لا بد أن تكون العلة موجودة طرداً وعكساً، أي: وصفاً مناسباً.

فمثلاً: لو قلت: العبد إن كان أسوداً فتخير امرأته الحرة إما أن تتركه وإما أن تبقي معه، فـ بريرة لما أعتقتها عائشة رضي الله عنها وأرضاها سعى خلفها مغيث من شدة الوجد والغرام والعشق، فكان يبكي، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه فتعجب، فقال: (يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث لـ بريرة، وبغض بريرة لـ مغيث!) فلما أشفق النبي صلى الله عليه وسلم على مغيث ذهب إلى بريرة فقال لها: (تزوجيه أو قال: اقبليه) يعني: لا تختاري العتق، فقالت: (يا رسول الله! تأمرني؟ قال: لا، إنما أنا شافع، فقالت: إذاً لا أريده) فهي لم ترده لأنه أسود؛ ولو كان أبيض لكانت تجبر عليه؛ بل السواد والبياض لا يؤثر في الحكم، فلابد أن العلة تكون وصفاً مناسباً، وجوداً وعدماً، لا أن تكون وصفاً غير مناسب، كالسواد مثلاً في العبودية.

رابعاً: ألا يصادم القياس نصاً؛ لأنه إذا صادم النص يصبح قياساً فاسد الاعتبار، فلا بد أنك إذا أردت الاجتهاد في المسألة أن تبحث عن النص في الكتاب أو في السنة، فإذا لم تجد فلك أن تقيس، أما أن تقيس والنص موجود فهذا فساد في العقل وفي الاعتبار، فلا قياس مع النص.

والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها مثالين: المثال الأول: قول الأحناف: إن للمرأة البالغة الرشيدة أن تزوج نفسها؛ لأن لها ذمة مستقلة قياساً على البيع، فإن لها أن تشتري وتبيع بالاتفاق، فقد جعلتم لها تصرفاً وصححتم هذا التصرف ولها ذمة مالية، فلها أن تأخذ المهر وتزوج نفسها من رجل، والمهر كأنه هبة لما استحل من فرجها، فهي أشبهت البيع والشراء، فلها أن تزوج نفسها، وهذا قياس بديع وقياس قوي، لكن الرد عليهم أننا نقول: هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لمصادمته للنص، وهو حديث: (لا نكاح إلا بولي) أما زيادة: (وشاهدي عدل) فقد ضعفها كثير من أهل العلم وإن صححها بعضهم، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، وإذا اختلفوا أو تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).

المثال الثاني: قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيع المصراة: (فليردها وصاعاً من تمر) فأنت أخذت لبناً، فالقياس أنك إذا رددت ترد المثل، والدليل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طعام بطعام وإناء بإناء) فطعام بطعام أي: إما هو أو مثله؛ ولذلك ابن حزم تمسك وقال: لا بد أنه يرد اللبن أو يرد مثله، وإن لم يستطع فقيمة اللبن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وصاعاً من تمر).

فمن قاسها على المثليات نقول له: هذا قياس فاسد مصادم للنص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بردها وصاعاً من تمر.

خامساً: أن يكون وجود العلة في الفرع كوجودها في الأصل، مثل أن تقول: قال الله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فالعلة هنا: الإيذاء؛ ولذا حرم كل قول أو فعل تجاه الوالدين اشتمل على الإيذاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015