أما الإجماع من حيث التصريح وغيره فهو نوعان: إجماع صريح، وإجماع سكوتي.
الأول: الإجماع الصريح: وهو الذي صرح فيه كل إمام عالم مفت مجتهد من هذه الأمة بالحكم الشرعي.
مثال ذلك: وقع في عصر الصحابة: أن امرأةً جاعت فأرادت أن تأكل فزنت بدرهمين، فجاء عمر بن الخطاب ليجلدها، ولما تكلم معها علم أنها لم تكن تعلم أن الزنا حرام، فقال عمر بن الخطاب: هي جاهلة بالحكم فلا تجلد، فوافقه الصحابة وقالوا: لا تجلد، فهذا إجماع صريح.
وكذلك مثل: قضية التأمين، والتأمين تأمينان: تأمين تجاري، وتأمين تعاوني.
فالتأمين التعاوني كصندوق الزمالة وغيره، وهذا لا حرج فيه، لكن التأمين التجاري يعتبر نازلة من النوازل، أي: أنه لا يوجد أحد تكلم عنه، غير ابن عابدين تكلم في التأمين البحري، فيوجد تأمين على الحياة، وتأمين على العين وغير ذلك، وهناك ممثلات يؤمنَّ على أنفسهن، ومنهن من تؤمن على عينها، أو لاعب الكرة يؤمن على رجله، فهذا التأمين يعتبر نازلة، فالشيخ ابن باز ينظر في التأمين ويقول: حرام، لكن الشيخ مصطفى الزرقا يقول: إنه جائز، والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني يقولان: إنه حرام، ويأتي المجمع الفقهي في الكويت فيقول: حرام، وتأتي دار الإفتاء في الأزهر وتجتمع مع إدارة البحوث فيقولون: حرام، فيسمى هذا إجماعاً صريحاً، وقد اتفق أهل العلم على أن الإجماع الصريح حجة.
كذلك مثلاً: البنوك الإسلامية، إن لم تكن كلها حرام فجل معاملاتها تخالف الشرع، يقول الشيخ الألباني: هؤلاء يتعاملون بتعامل أخس من تعامل اليهود، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحوم الميتة أذابوه، ثم جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه) فهؤلاء فحول أهل العلم وأساطين أهل العلم الذين لا مخالف لهم يقولون: بأن هذه البنوك تتعامل تعاملاً فيه تحايل على الربا، فإذا قال العلماء المجتهدون: إن هذا تحايل على الربا، وأجمعوا على أنه لا يجوز، فهذا الإجماع صريح وهو حجة، لكن لو أن العلماء سكتوا عن هذه الفتوى فيسمى إجماعاً سكوتياًًً، ولا يسمى إجماعاً صريحاً.
الثاني: الإجماع السكوتي: وهو أن يسكت علماء العصر على فتوى لمجتهد من المجتهدين دون إنكار، كأن يصل إلى العلماء أن العالم المجتهد الفلاني قال: بتحريم نقل الأعضاء، كبيع الكلى، فسكتوا، فالسكوت هنا معناه الرضا، وهذا يسمى إجماعاً سكوتياًًً.
وهذا الإجماع اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه إجماع وهو حجة.
القول الثاني: أنه ليس بإجماع وليس بحجة وهذا قول الشافعية والمالكية.
وأدلتهم في ذلك: القاعدة التي قعدها الإمام الشافعي من النظر: أنه لا ينسب لساكت قول -فأول من تكلم في القواعد الفقهية هو الشافعي، كما أنه أول من كتب في الأصول، وأول قاعدة تكلم بها الشافعي: لا ينسب لساكت قول- فإذا انتقلت الفتوى إلى إمام وسكت عنها فلا يكون حجة؛ لأن هناك احتمالات: الاحتمال الأول: أن يكون ذهل عن المسألة، لشغله بشيء آخر، ولم يفت فيها.
الاحتمال الثاني: أن يكون خائفاً من جَوْر السلطان، كمن عايش العصر العباسي، فيصعب عليه أن يفتي بفتوى مخالفة، كما جلد الإمام مالك على فتوى أفتاها في تحريم نكاح المتعة؛ لأنهم ينقلون عن ابن عباس أنه يقول: بإباحة نكاح المتعة، فلم يكن يستطيع أحد من العلماء أن يقولها جهاراً، فقالها الإمام مالك فجلدوه.
الاحتمال الثالث: أنه سكت؛ لأنه لم يترجح له شيء في المسألة فتوقف، فهذه احتمالات تبين أن الساكت لم يقر على هذه الفتوى.
القول الثالث: أنه ليس بإجماع لكنه حجة.
القول الأول: قول الأحناف والحنابلة: أنه إجماع وهو حجة، فقالوا: إنه إذا مرت الفتوى على عالم فلم ينكرها دل ذلك على أنه رضي بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذنها صماتها) أي: سكوت المرأة إذن منها؛ ولذلك قالوا: السكوت علامة الرضا، وقالوا: الأصل عدم الاحتمالات.
القول الثالث: قول بعض الشافعية من المحققين وبعض الأحناف: أنه ليس بإجماع، لكنه حجة ظنية لا يلزم العمل به.
ومعنى هذا: أن الحجة الظنية يسوغ الاختلاف فيها، أما الإجماع القطعي فلا يجوز الاختلاف عليه، وهذا هو الفارق، فهذا القول قول وسط بين القولين، وهو الصحيح والراجح، ولو قال قائل: بأنهم إذا سكتوا على فتوى وعلمنا يقيناً أن هذه الفتوى بلغت العلماء، وانقرض عصر هؤلاء العلماء، فإنه يكون إجماعاًً.
لما أبعد.
ولكن القول الثالث: هو الراجح والصحيح.