وبعد: فلما كان في السنة العاشرة من الهجرة النبوية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بعزمه على الحج وأعلم الناس بذلك كي يتأهبوا للحج معه صلى الله عليه وسلم ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أحواله وأفعاله ويستمعوا إلى أقواله وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد ويبلغ الشاهد الغائب ما رأى وما سمع من أفعال وأقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس الاقتداء والاهتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة وخرج معه أصحابه الكرام وعددهم ينوف على المائة ألف حتى إذا كان بالبيداء استوت به ناقته والناس عن يمينه وشماله ومن خلفه وأمامه وهو يتوسطهم أهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بإهلاله قال جابر أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. وأصبح ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام أهل بالحج والعمرة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من ربى في هذا الوادي المبارك وقال قل عمرة في حجة) وهذا من أدلة إدخال الحج على العمرة ولا عكس. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة وبات بذي طوى واغتسل فيها ثم سار ودخل البيت من ثنية كداء من أعلى مكة وهي الثنية العليا بالحجون حتى أتى البيت واستلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا والرَّمَلُ مشروع للرجال وهو المشي السريع مع تقارب الخطى ويقال له الخبب ويكون في الجهات الثلاث من البيت الشرقية والشامية والغربية وشرع لإغاظة الكفار حيث قالوا يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى فأطلع الله نبيه بما قاله المشركون فأمر أصحابه بالرمل وقعد المشركون على جبل قعيقعان ولما نظروا إليهم قالوا والله ما بهم من بأس وإن هم إلا كالغزلان. ويضطبع الطائف في طواف القدوم وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ومنكبه الأيمن مكشوف ثم نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين قرأ بعد الفاتحة في الأولى بقل يا أيها الكافرون. وفي الثانية بعد الفاتحة بقل هو الله أحد. ويجوز للطائف أن يصلي ركعتي الطواف في أي جزء من أجزاء الحرم. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه فخرج من باب الصفا فلما دنا منه قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى شديدا حتى صعدتا فمشى ولا يشرع السعي للنساء حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا وكان آخر طوافه على المروة وقال عليه الصلاة والسلام أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة) فحل الناس ولم يبقى على إحرامه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي وقال لهم (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) ثم مكث رسول الله ومن معه بمكة حتى اليوم السابع فخطب الناس بعد صلاة الظهر بها وأخبرهم بمناسكهم وأمور حجهم وأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى ولما كان اليوم الثامن وهو يوم التروية توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. وأداء هذه الصلوات الخمس والبيتوية في هذه الليلة في منى سنة بالاتفاق وليس على من ترك ذلك شيء ثم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب راحلته وأمر بقبة له من شعر تضرب بنمرة لينزل بها فسار ولم يقف بالمشعر الحرام ثم واصل سيره قاصدا عرفة فوجد القبة قد ضربت بنمرة وهي ليست من عرفة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر براحلته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس خطبته المشهورة التي جمع فيها أحكام الحج وبينت المناسك وما يجب للناس وما عليهم وبينت ما للمسلمين من حرمة في دمائهم وأعراضهم وأموالهم ووضع كل أمر كان في الجاهلية ووضع دماءها وأنه لا قصاص في قتلها وأول دم وضعه دم قريب له هو دم ربيعة بن الحارث كان مستعرضا في بني سعد وأبطل أفعال الجاهلية وبيوعها (التي لم يتصل بها قبض) وأبطل الربا الذي كان المشركون يتعاملوا به وأول ربا وضعه ربا عمه العباس بن عبد المطلب وأوصى بالنساء ما لهن وما عليهن وأوصى أمته بالتزام كتاب الله وسنته وأن من تمسك بهما هدي إلى صراط مستقيم ومن اهتدى بهما فلن يضل ومن احتكم إليهما فاز بالسعادة الأبدية ومن استضاء بنورهما قادتاه إلى رضوان