الأصمعيّ، فَأَنْشد الْمفضل قَول أَوْس بن حجر:
أيتها النَّفس أجمِلي جزَعا
إنَّ الَّذِي تحذرين قد وَقعا
وفيهَا:
وَذَات هِدمٍ عارٍ نواشرُها
تصمتُ بِالْمَاءِ تولباً جذَعا
فَفطن الأصمعيّ لخطئه، وَكَانَ أحدث سنًّا مِنْهُ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ (توَلبا جذَعا) وَأَرَادَ تَقْرِيره على الْخَطَأ، فَلم يفْطن الْمفضل لمراده فَقَالَ: كَذَلِك أنشدتهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَصْمَعِي حينئذٍ: أخطأتَ، إِنَّمَا هُوَ (تولباً جدِعاً) فَقَالَ الْمفضل: جذَعا جذعا وَرفع صَوته فَقَالَ لَهُ الأصمعيُّ: لَو نفختَ فِي الشبُّور مَا نفعك تكلم كلامَ النملِ وأصبْ، إِنَّمَا هُوَ (جدِعا) . فَقَالَ سليمانُ الْهَاشِمِي: اختارا من نجعله بَيْنكُمَا. فاتّفقا على غُلَام من بني أسدٍ حافظٍ للشعر، فبعثَ سليمانُ إِلَيْهِ من أحضرهُ، فعرضا عَلَيْهِ مَا اخْتلفَا فِيهِ فصدَّق الأصمعيَّ وصوَّب قَوْله، فَقَالَ لَهُ الْمفضل: وَمَا الجَدِع؟ قَالَ: السيء الغِذاء.
قلت: وَهَذَا هُوَ فِي كَلَام الْعَرَب، يُقَال: أجدعتْه أمه، إِذا أساءت غذاءه.
وَمن الطَّبَقَة الَّذين خلفوا هَؤُلَاءِ الَّذين قدَّمنا ذكرَهم وَأخذُوا عَن هَؤُلَاءِ الَّذين تقدَّموهم خَاصَّة وَعَن الْعَرَب عامَّة، وعُرفوا بالصِّدق فِي الرِّوَايَة، والمعرفة الثاقبة، وَحفظ الشّعْر وَأَيَّام الْعَرَب:
أَبُو زيدٍ سعيد بن أَوْس الْأنْصَارِيّ؛ وَأَبُو عَمْرو إِسْحَاق بن مُرَاد الشَّيْبَانِيّ مولى لَهُم، وَأَبُو عُبَيْدَة معمر بن المثنَّى التَّيْمِيّ من تيم قريشٍ مولى لَهُم؛ وَأَبُو سعيد عبد الْملك بن قُريب الأصمعيّ؛ وَأَبُو مُحَمَّد يحيى بن الْمُبَارك اليزيديّ، وَإِنَّمَا سمي اليزيدي لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدب ولد يزِيد بن مَنْصُور الحميريّ خَال الْمهْدي، وَلَا يقدَّم عَلَيْهِ أحدٌ من أَصْحَاب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء فِي الضَّبْط لمذاهبه فِي قراءات الْقُرْآن.
وَمن هَذِه الطَّبَقَة من الْكُوفِيّين: أَبُو الْحسن عَليّ بن حَمْزَة الْكسَائي: وَعنهُ أَخذ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن زِيَاد الفرَّاء النَّحْو والقراءاتِ والغريبَ والمعاني، فتقدَّم جَمِيع تلامدته الَّذين أخذُوا عَنهُ، إلاّ عليّ بن الْمُبَارك الْأَحْمَر، فَإِنَّهُ كَانَ مقدَّماً على الفرَّاء فِي حَيَاة الْكسَائي لجودة قريحته وتقدّمه فِي علل النَّحْو ومقاييسه. وأسرع إِلَيْهِ الموتُ فِيمَا ذكر أَبُو مُحَمَّد سَلمَة بن عَاصِم، وبقيَ الفرَّاء بعده بَقَاء طَويلا فبرَّز على جَمِيع من كَانَ فِي عصره.