حالا بعد الموت ثم لم يعلم ما هي تلك الحال فقد أقر بالجهل وعلاج الجهل العلم. ومن علم فقد وثق ومن وثق فقد عرف سبيل السعادة فهو يسلكها لا محالة ومن سلك طريقا مستقيما إلى غرض صحيح أفضى إليه بلا شك ولا مرية. وهذه الثقة التي تكون بالعلم هي اليقين وهي حال المستبصر في دينه المستمسك بحكمته وقد عرفناك مرتبته ومقامه فيما سلف من القول، اما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونشبه ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا وشهواتها.
فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا يجدي الحزن إليه بطائل وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا الباب إنما نذكر علاج الخوف وقد أتينا منه على ما فيه مقتنع وكفاية إلا أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول: أن الإنسان من جملة الأمور الكائنة وقد تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة فمن أحب أن لا يفسد فقد أحب أن لا يكون. ومن أحب أن لا يكون فقد أحب فساد ذاته فكأنه يحب أن يفسد ويحب أن لا يفسد ويحب أن يكون ويحب أن لا يكون وهذا محال لا يخطر ببال عاقل. وأيضا فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقي من تقدمنا ولو بقي من تقدمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. وأنت تتبين ذلك مما أقول. هب أن رجلا واحدا ممن كان منذ أربعمائة سنة هو موجود الآن وليكن من مشاهير الناس حتى يمكن أن يحصل أولاده موجودين معروفين كعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه مثلا. تم ولد له اولاد ولأولاده أولاد وبقوا كذلك يتناسلون ولا يموت منهم أحد.