وإذا تعود الحديث الناشء من مبدء تكوينه الإرتياض بالأمور الفكرية ولازم التعاليم الأربعة ألف الصدق واحتمل ثقل الروية والنظر وأنس بالحق ونبا طبعه عن الباطل وسمعه عن الكذب فإذا بلغ أشده وانتقل إلى مطالعة الحكمة استمر طبعه فيها وتشرب ما يستودع منها ولا يرد عليه أمر غريب ولا يحتاج إلى كثير تعب في فهم غوامضها وإستخراج دفائنها فيصل إلى سعادتها التي ذكرناها سريعا. وإن كان حافظ هذه الصحة قد توحد في العلم لا نهاية له وفوق كل ذي علم عليم. ولا يتكاسلن عن معاودة ما علمه والدرس له فإن النسيان آفة العلم وليتذكر قول الحسن البصري رحمة الله عليه (اقدعوا هذه النفوس فإنها طائعة وحادثوها فإنها سريعة الدثور) واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني وهي مع ذلك فصيحة واستوفت شروط البلاغة. وليعلم أيضا حافظ هذه الصحة على نفسه أنه إنما يحفظ عليها نعما شريفة جليلة موهوبة لها وكنوزا عظيمة مدخرة فيها وملابس فاخرة مفرغة عليها. وإن من كانت هذه المواهب الجليلة موجودة له في ذاته لا يحتاج إلى تطليها من خارج ولا إلى بذل الأموال فيها لغيره ولا يكلف العناء والمؤمن الثقال في تحصيلها ثم أعرض عنها وأهمل أمرها حتى انسلخ عنها وعرى منها لملوم في فعله مغبون في رأيه غير رشيد ولا موفق.

لا سيما وهو يرى طالبي النعم الخارجة كيف يتجشمون الأسفار البعيدة الخطرة ويقطعون السبل المخوفة الوعرة ويتعرضون لضروب المكاره وأنواع التلف من السباع العادية وطبقات الشرار الباغية وهم يخيبون في أكثر الأحوال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015