ولست أترك مع الإيجاز والإختصار تعظيم هذا الباب وتكريره عليك لتعلم أن القدماء إنما ألفوا فيه الكتب وضربوا له الأمثال وأكثروا فيه من الوصايا لما رواءه من النفع العظيم عند السامعين من الأخيار ولما خافوه من الضرر الكثير على من يستهين به من الأغمار. وليعلم المثل المضروب في السباع القوية إذا دخل عليها الثعلب الرواغ على ضعفه أهلكها ودمرها.

وفي الملوك الحصفاء يدخل بينهم أهل النميمة في صورة الناصحين حتى يفسدوا نيتهم على وزرائهم المبالغين في نصيحتهم المجتهدين في تثبيت ملكهم إلى أن يغضبوا عليهم ويصرفوا به عيونهم منهم وإلى أن يبطشوا بهم قتلا وتعذيبا وهم غير مذنبين ولا مجترمين ولا مستحقين إلا الكرامة والإحسان فإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار ما بلغوه من هؤلاء فباللأحرى أن يبلغوه منا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين اخترناهم على الأيام وادخرناهم للشدائد وأحللناهم محل أرواحنا وزدناهم تفضلا وإكراما.

ويتبين لك من جميع ما قدمناه أن الصداقة وأصناف المحبات التي تتم بها سعادة الإنسان من حيث هو مدني بالطبع إنما اختلفت ودخل فيها ضروب الفساد وزال عنها معنى التأحد وعرض لها الإنتشار حتى احتجنا إلى حفظها والتعب الكثير بنظامها من أجل النقائص الكثيرة التي فينا وحاجتنا إلى إتمامها مع الحوادث التي تعرض لنا من الكون والفساد. فإن الفضائل الخلقية إنما وضعت لأجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتم الوجود الإنساني إلا بها. ذلك أن العدل إنما احتيج إليه لتصحيح المعاملات وليزول به معنى الجور الذي هو رذيلة عند المتعاملين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015