ويجب على من بلغ هذه المنزلة من الأخلاق أنيعرف مراتب المحبات وما يستحقه كل واحد من صاحبه حتى لا يبذل كرامة الوالد للرئيس الأجنبي ولا كرامة الصديق للسلطان ولا كرامة الولد للعثير ولا كرامة الأب للإبن.
فإن لكل واحد من هؤلاء وأشباههم صنفا من الكرامة وحقا من الجزاء ليس للآخر ومتى خلط فيه اضطرب وفسد وحدثت الملامات وإذا وفى كل واحد منهم حقه وقسطه من المحبة والخدمة والنصيحة كان عادلا وأوجبت له محبته وعدالته فيها محبته لصاحبه ومعامله. وكذلك يجب أن يجري الأمر في مؤانسة الأصحاب والخلطاء والمعاشرين من توفية حقوقهم وإعطائهم ماهو خاص بهم. ومن غش المحبة والصداقة كان أسوأ حالا ممن غش الدرهم والدينار.
فإن الحيكم ذكر أن المحبة المغشوشة تنحل سريعا وتفسد وشيكا كما أن الدرهم والدينار إذا كانا مغشوشين فسدا سريعا وهذا واجب في جميع أنواع المحبات. ولذلك يتعاطى العاقل أبدا أنمطاء واحدا ويلزم مذهبا واحدا في إرادة الخير ويفعل جميع ما يفعله من أجل ذاته ويرى خيره عند غيره كما يراه عند نفسه. وأما صديقه فقد قلنا أنه هو هو إلا أنه غير بالشخص إما سائر مخالطيه ومعارفه فإنه يسلك بهم مسلك أصدقائه كأنه مجتهد في أن يبلغ بهم وفيهم منازل الأصدقاء بالحقيقة وأن كان لا يمكن ذلك في جميعهم. فهذه سيرة الخير في نفسه وفي رؤسائه وأهله وعشيرته وأصدقائه وسلطانه.
وأما الشرير فإنه يهرب من هذه السيرة وينقر منها لرداءة الهيئة التي حصلت له ولمحبة البطالة والتكاسل عن معرفة الخير والتمييز بينه وبين الشر وبين ماهو مظنون عنده خيرا وليس بخير.