فقد نقل إلينا في الأخبار المأثورة عمن أقدم على سلطان قوي ورام أن ينتقم منه فأهلك نفسه من غير أن يضر سلطانه روايات كثيرة وكذلك حال من أقدم على قرن قوي أو خصم ألد لا يستطيع مقاومته فإن الإنتقام منه يعود وبالا عليه وزيادة في الذل والعجز. فإذا ليست تنم شرائط الشجاعة والعفة إلا للحكيم الذي يستعمل كل شيء في موضعه الخاص به ويقدر أقساط العقل له. فكل شجاع عفيف حكيم وكل حكيم شجاع عفيف وهذه الحال بعينها تظهر فيمن عمل عمل الإسخياء وليس بسخي. وذلك أن من بذل أمواله في شهواته طلبا للسمعة والرياء أو تقربا إلى السلطان أو لدفع مضرة عن نفسه وحرمه وأولاده أو بذلها لمن لا يستحق من أهل الشر أوالملهين أو المساخرين أو بذلها لطمع في أكثر منها على سبيل التجارة والمرابحة فكل هؤلاء يعمل عمل الإسخياء وليس بسخي. أما بعضهم فيبذل ماله بطبيعة الشره وأما بعضهم فبطبيعة الطرمذة والرياء وبعضهم على طريق الإزدياد من المال والربح فيه وأما بعضهم فعلى سبيل التبذير وقلة المعرفة بقدر المال. وهذا أكثر ما يعرض للوارث ولمن لا يتعب في اكتساب المال فلا يعرف صعوبة الأمر فيه. وذلك أن المال صعب الإكتساب سهل الإنفاق والتفرقة قد شبهه الحكماء بمن يرفع حملا ثقيلا إلى قلة جبل ثم يرسله فإن الأمر في ترقيته واصعاده صعب ولكن إرساله من هناك أمر سهل.