كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول، فليصدر منه المختلفات. ولنترك دعوى وحدانيته من كل وجه إن كانت الوحدانية تزول بهذا النوع من الكثرة.
قولهم الأول لا يعقل إلا ذاته فإن قيل: الأول لا يعقل إلا ذاته وعقله ذاته هو عين ذاته، فالعقل والعاقل والمعقول واحد ولا يعقل غيره.
والجواب من وجهين:
أحدهما أن هذا المذهب لشناعته هجره ابن سينا وسائر المحققين وزعموا أن الأول يعلم نفسه مبدأ لفيضان ما يفيض منه ويعقل الموجودات كلها بأنواعها عقلاً كلياً لا جزئياً، إذ استقبحوا قول القائل: المبدأ الأول لا يصدر منه إلا عقل واحد ثم لا يعقل ما يصدر منه، ومعلوله عقل ويفيض منه عقل ونفس فلك وجرم فلك ويعقل نفسه ومعلولاته الثلاث وعلته ومبدأه، فيكون المعلول أشرف من العلة من حيث أن العلة ما فاض منها إلا واحد. وقد فاض من هذا ثلاثة أمور، والأول ما عقل إلا نفسه، وهذا عقل نفسه ونفس المبدأ ونفس المعلولات. ومن قنع أن يكون قوله في الله راجعاً إلى هذه الرتبة فقد جعله أحقر من كل موجود يعقل نفسه ويعقله، فإن ما يعقله ويعقل نفسه أشرف منه إذا كان هو لا يعقل إلا نفسه.
فقد انتهى منهم التعمق في التعظيم إلى أن أبطلوا كل ما يفهم من العظمة وقربوا حاله من حال الميت الذي لا خبر له مما يجري في العالم، إلا أنه فارق الميت في شعوره بنفسه فقط. وهكذى يفعل الله بالزائغين عن سبيله والناكبين لطريق الهدى المنكرين لقوله: "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم"، "الظانين بالله ظن السوء"، المعتقدين أن الأمور الربوبية يستولي على كنهها القوى البشرية، المغرورين بعقولهم زاعمين أن فيها مندوحة عن تقليد الرسل وأتباعهم.