وأما المصالح المتعارضة فالمشروع أيضًا فعلها كلها عند الإمكان، وإذا لم نستطع الجمع بينها فالذي ينبغي هو فعل ما كانت مصلحته أكمل؛ لأن ذلك من باب تكميل المصالح. فدار الأمر في هذين الأصلين بين شيئين: الأول: تقليل المفاسد، والثاني: تكميل المصالح، والله أعلم.
مسألة: ويدخل تحت هذه الأصول قواعد كثيرة:
منها: الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف.
ومنها: الضرر يدفع بقدر الإمكان.
ومنها: الضرر العام يدفع بالضرر الخاص.
ومنها: الضرر لا يزال بالضرر، وغيرها. ويبحثها العلماء تحت القاعدة الكبرى: (الضرر يزال) .
مسألة: جواز رمي الكفار الذين تترسوا بأسرى مسلمين هو من هذا الباب، فإن فيه مفسدتان ومصلحتان. فالمفسدة الأولى: مفسدة القضاء على المسلمين واستباحة ديارهم وأموالهم ونسائهم. والثانية: مفسدة قتل المتترس بهم، ولاشك أن المفسدتين متعارضتان، فإننا إذا راعينا عدم قتل الأسرى المسلمين فإن الكفار سيصلون إلينا ويفعلون بنا الأفاعيل، وإذا رميناهم ودافعنا عن أنفسنا فسنقتل إخواننا المساكين، فهما مفسدتان لابد من إحداهما، لكن مفسدة وصول الكفار إلينا والاستيلاء علينا أشد من مفسدة قتل الأسرى المتترس بهم؛ لأن الأولى ضررها عام، والثانية ضررها خاص، والضرر العام يدفع بالضرر الخاص، فجاز رمي الكفار الذين تترسوا بالمسلمين مع أن فيه مفسدة دفعًا للمفسدة العامة التي هي قتل المسلمين والاستيلاء عليهم.
وأما المصلحتان: فالأولى: مصلحة عدم قتل هؤلاء الأسرى المتترس بهم. والثانية: مصلحة أمن المسلمين والإبقاء عليهم في ديارهم، ولابد لفعل إحداهما من تفويت الأخرى فراعت الشريعة مصلحة حياة الأمة على مصلحة حياة البعض؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعلاهما بتفويت أدناهما، والله أعلم.