وأما العقل فلأن عقود المعاوضات مبناها على المبادلة، حتى ينتفع كل واحدٍ منهما بما صار إليه فالبائع ينتفع بالثمن والمشتري ينتفع بالسلعة وهذا هو مقصود عقد المعاوضة، فإذا جاز الاستثناء فيها بلا اشتراط علمها فإن العقد حينئذٍ لا تترتب عليه المصلحة المطلوبة ويكون من نوع الغرر والجهالة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر في البيع.
وأما دليل جواز جهالتها في عقود التبرعات فلحديث سفينة عند أبي داود وغيره بسندٍ صحيح قال: (كنت مملوكًا لأم سلمة) . فقالت: أعتقتك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت. قلت: (لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقتني واشترطت علي) وقسنا عليه باقي عقود التبرعات؛ ولأن عقود التبرعات مبناها على الإحسان ولا خسارة فيها على الطرف الآخر أبدًا فهي إن حصلت فمكسب، وإن لم تحصل فلا خسارة، فالجهالة في استثنائها لا مفسدة فيه؛ ولأن من بذلها محسن، وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} هذا بالنسبة للتدليل.
وأما بالنسبة للتفريع فالفروع كثيرة لكن نذكر منها بعضها توضيحًا لا استقصاءً فأقول: منها: باعه داره واستثنى سكناها مدة حياته فإن هذه الثنيا لا تصح؛ لأنها مجهولة والعقد عقد معاوضة، فمن شروط صحتها أن تكون معلومة، لكن لو قال: واستثنيت سكناها شهرًا أو يومًا أو سنةً ونحوها من الآجال المعلومة فهذه الثنيا صحيحة للعلم بها وانتفاء الجهالة عنها.
ومنها: باعه دابته واستثنى حملانها إلى بلاده فهذه الثنيا صحيحة إذا كانت المسافة معروفة عند المشتري وذلك للعلم بها، لكن لو قال: واستثني حملانها إلى موضع ما، فهذه الثنيا لا تصح؛ لأنها مجهولة والعقد عقد معاوضة.