وموضع من تقسيم المحمول وهو مشترك للصنائع الثلاث. ومثال ذلك هاهنا أَن يقول قائل في الإِبطال: كيف يكون فلان مجرحا وأَي خمر شربها، أَو أَي زنى أَتاه، أَو أَي نفس قتلها، وأَي مال أَكله، وأَي صلاة تركها، وما أَشبه ذلك. ويقول في الإِثبات: كيف لا يكون فلان عدلا وأَي صلاة فوتها، أَو أَي زكاة لم يؤدها، أَو أَي منكر عرف أَنه أَتاه. وموضع آخر أَشبه أَن يكون إِما موضع اللازم الذي ذكره في طوبيقى وإِما جزءاً من موضع اللازم: وذلك أَن ننظر فيما يعرض للشيء من خير وشر ويلزمه، وبالجملة من اللوازم المتضادة، وذلك في الأَصناف الثلاثة، أَعني المشورية والمشاجرية والمنافرية. مثال ذلك أَن يقول قائل: إِن الذي يلزم متعلم الأَدب من الشر أَن يكون محسوداً، والذي يلزمه من الخير أَن يكون حكيما، فينبغي للمرءِ أَلا يتأَدب لكي لا يحسد، أَو يتأَدب لكي يكون حكيما. وذلك إِما بأَن يستعمل في الحث على أَحد المتضادين أَو في التخيير. وهذا الموضع يستعمل في الممكنات وفي سائر الأَشياءِ، وهو لذيذ بحسب ما فيه من ترتيب المتضادين أَحدهما عند الآخر.
وموضع آخر: وهو أَنه قد يلحق كل واحد من الضدين أَو المتقابلين بالجملة متقابلان اثنان، إِما معا، وإِما أَن يلحق كل واحد منهما أَحد الضدين فقط. فالأَول هو الموضع الذي تقدم، وذلك أَن التأَدب وعدمه يلحق كلَّ واحدٍ منهما خيرٌ وشرٌ معا. وأَما الذي يلحق كلَّ واحد منهما أَحدُ الشيئين، فمثال قول القائل: إِن نطقتُ، نطقتُ إِما بالحق وإِما بالكذب. فإِن نطقت بالكذب أَبغضني الله، وإِن نطقت بالحق أَبغضني الناس. فالواجب السكوت. أَو يقول: بل الواجب التكلم، لأَنه إِن تكلمتَ بحق أَحبك الله، وإِن تكلمت بباطل أَحبك الناس. ومن الفرق بين هذا وبين الموضع الأَول: أَن اللازمين هناك لأَحد الضدين قد لا يكونان متضادين - فإِن الحسد والحكمة غير متضادين - وقد يمكن أَن يجتمعا في موضع واحد. وأَما اللازمان هنا فليس يمكن اجتماعهما، وذلك أَن محبة الله هي العدل، ومحبة الناس هي الجور.
وموضع آخر: وهو أَن نعتمد المقدمات المتضادة، أَعني التي يلحق أَحد الضدين منهما أَن يكون جميلا ومعترفا به في الظاهر وباللسان، وقد يكون الضد الآخر نافعا ومعترفا به في الباطن والضمير. فإِن الخطيب إِذا تحرى بهذا الموضع أَمثال هذه المقدمات، أَمكنه أَن يقنع به في الشيءِ وضده، وهو من العجائب وجودة الحيلة. مثال ذلك أَن يقول قائل يريد أَن يحث على أَجتناب الخمر: إِنها رجس وإِنها محرمة ومفتاح الآثام. فإِن هذا في الظاهر والجميل مقر به. ويقول آخر: أَنها تنفع المرءَ في صحته وتجيد خلقه وذهنه، فإِن هذا معترف به في الضمير.
وموضع آخر مركب من موضعين من مواضع التقابل، أَحدهما تركيب الأَضداد، والآخر عكس مقدمات الأَضداد، وذلك مثل قول القائل، وقد عذل في استخدام ابنه وكان طويلا، فقال لهم: إِن كنتم تعدّون الطوال من الغلمان رجالا، فقد أَوجبتم أَن القصار من الرجال غلمان. فإِن قولنا: " " الغلام الطويل رجلٌ " " عكس قولنا: " " الرجل القصير غلامٌ " ". والرجل والغلام متقابلان، والقصير والطويل كذلك.
ومثال آخر من هذا: إِن كنتم لا تجعلون زواركم مقصين ولا مبعدين إِذا فعلوا الفواحش، فلا تقربوا الأَعفاء ولا تزوروهم.
وموضع آخر: أَن يكون الضدان أَو المتقابلان يلزمهما شيءٌ واحد بعينه، كقول القائل: إِنه سواءٌ في الإِثم والفرية أَن الإِله مخلوق وأَنه لا يموت، أَو قوله إِنه ليس بمخلوق وإِنه يموت. فإِن الذي يلزم عن هذين المتقابلين هو أَمر واحد بعينه وهو أَن يكون الإِله ليس بإِله. ولزوم الشيءِ الواحد للمتقابلين معا ليس هو بالحقيقة، وإِنما ذلك بالعرض. كما قيل في المسئلة المشهورة: هل ينبغي أَن يتفلسف أَو لا يتفلسف. فإِنه بأَي الوجهين أَجاب، لزمه أَن يتفلسف. ومن هذا تبكيت أَفلاطون لأَفروطاغورش. ومن هذا قول القائل: سواءٌ عصيت الله أَو عصيت الرسول.