تلخيص الخطابه (صفحة 93)

وموضع آخر خاص بالخطابة وهو يشتمل على مواضع وليس يوجد قول يشملها إِلا أَنه بالجملة يقتضي تبكيت المخاطب بما قد فعله أَو بما هو فاعل أَو بأَمر ما لم يفعله ولا هو فاعله. فمنها أَن تكلف من سأَلك شيئا ما يعسر عليك أَن يفعل هو ما يعسر عليه أَو لا يقدر على فعله. ومنها أَن تسأَل غيرك أَن تفعل ما تعلم أَنه لا يقدر عليه وما ليس له ليظن بك أَنك ممن له ذلك الشيء. ومنها أَن تعيب على غيرك شيئا تعلمه من نفسك ليظن أَن الذي تعيب به غيرك ليس هو لك. وذلك أَن ما يعيب الرجل به غيره يظن به أَنه يتجنبه. إِذ كان ما يتجنبه يعيب به غيره فيظن بهذا العكس. وكذلك إِذا أَوجبت لغيرك خيرا ليس هو فيك ليظن أَنه فيك. ومن هذا الجنس: المتجني من غير جناية. ومنها تتبع زيادة الشرائط في القول حتى يصير حجة، أَو نقصان الشرائط حتى يصير حجة. ومما يوبخ به الشاكي أَن يبين المشكو أَنه أُسوته في الشر وأَنه ليس هو أَفضل منه. فإِن التساوي في الشر لا يجعل لإِنسان على إِنسان آخر موضع شكاية. وذلك أَنه كما أَن التأَسي في الخير يوجب مدح بعض بعضا، كذلك التأَسي في الشر يزيل ذم بعض بعضا. ومن هذا الموضع أَمر ازدشير بن بابك الملك حيث قال في كتابه إِن الطاعنين على الملوك بالدين ينبغي أَن يؤتوا من الدنيا ويوسع عليهم حتى يكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم.

وموضع آخر مأخوذ من التحديد وهو مشترك بين الصنائع كلها ومعنى الحد هاهنا كل ما هو مقبول أَنه حد، أَو مظنون أَنه حد، كان ذلك حدا في الحقيقة أَو رسما أَو إِبدال اسم مكان اسم أَو تعريف الشيء بجنسه. فإِن هذه كلها داخلة في هذا الباب. وأَخذ مثالات ذلك مما اشتهر لدينا أَمر قريب. وأَرسطو ذكر في ذلك أَمثلة كانت لقوم مشهورين في زمانه.

وموضع آخر من القسمة وذلك أَن نقسم المحمول أَو الموضوع. فإِن الشيءَ إِذا أُخذ مجملا قد يرى أَنه مستقيم، وبالجملة أَنه بحال ما. فإِذا قسم ظهر أَنه بخلاف تلك الحال. كقول القائل: إِن مَنْ ظلم، فإِنما يظلم لإِحدى ثلاث: إِما لسبب كذا أَو كذا أَو كذا. فأَما الإِثنان فلا يمكن أَن يكونا، وأَما الثالث فليس تزعمه أَنت.

وموقع آخر مأخوذ من الاستقراءِ الذي سلف. مثال ذلك أَن يقول قائل: إِن الذي يهمه أَمر إِنسان آخر يتقدم فيشكره في الخير والشر مثل الوالد مع ولده والصديق مع صديقه، وذلك كما فعل فلان مع فلان، وفلان مع فلان. ومثل من يريد أَن يهون على آخر أَمر السنة أَو يحث عليها فيقول: إِن فلانا وفلانا فعل كذا وكذا مما يخالف السنة فلم يضره ذلك بل نمت حاله وزاد سلطانه، أَو يقول إِن فلانا وفلانا تمسك بالسنة فكان ذلك سببا لدوام سلطانه واتصال ملكه. وموضع آخر من مواضع التقابل: وهو أَن يحكم على شيء ما بحكم ما من أَجل أَنه قد حكم به مَنْ سلف إِما في ذلك الشيء بعينه، وإِما في شبيهه، وإِما في ضده، أَعني أَن الحكم على شيء ما يوجب ضد الحكم على ضده، ولا سيما إِن كان الذين حكموا هم الكل والجمهور والعلماء معهم أَو أَكثرهم وكان ذلك الحكم دائما، أَو ما يحكم به الأَكثر أَو الحكماء إِما جلهم وإِما بعضهم، وكذلك أَيضا إِذا حكم به الذين يظن أَنهم لا يحكمون بالمتضادات، أَعني بضد الحق أَو بضد الخير أَو بضد النافع أَنهم لا يحكمون بالمتضادات، أَعني بضد الحق أَو بضد الخير أَو بضد النافع أَو بضد العدل كالإِله والأَبوين والمعلم. والحكم من هؤلاءِ قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالطبع، أَعني إِذا لم يكن في طباعهم ذلك الشيء، مثل قول القائل: إِن الموت شر، هكذا حكم الله، فإِنه ليس بمائت. وأَما مثال ذلك في الأَبوين والمعلم فظاهر، وذلك إِذا احتج على الإِنسان بأَفعالهما وأَقوالهما.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015