تلخيص الخطابه (صفحة 107)

والخطيب يستعملها للاستظهار، وربما استعملها على جهة المغالطة وإِيهام تكثير المعنى بتكثيرها عند التقسيم. وإِذا استعملها الشاعر، فينبغي أَن يستعمل منها ما يخيل في المعنى أَمراً زائدا على ما يخيله الاسم الآخر، مثل قولنا: الصهباء، وخندريس، وقَرْقَف، وحميا. فإِن هذه الأَسماء كلها، وإِن كانت مترادفة، فإِنها تخيل في الخمر معاني مختلفة. وربما استعمل الخطيب المترادفة عند إِرادته تكرير المعنى الواحد بعينه لحفظه وتأكيده، فإِنه أَحسن من أَن يكرر ذلك المعنى بلفظ واحد. وأَما أَيما هي التغييرات الحسنة المناسبة الجميلة في هذه الصناعة التي ينبغي أَن يستعملها وأَيما هي التغييرات الباردة التي لا ينبغي أَن يستعملها، فينبغي أَن نقدم، لمعرفة ما يجب من ذلك، معرفة أَصناف التغيير وضروبه، وإِن كان ذلك أَخص بكتاب الشعر. فإِن التغيير ينبغي أَن يكون نفعه في الصناعتين على نسبة نفع الوزن فيهما، ولذلك كان أَخص بالشعر لكون الوزن أَخص به. وإِنما تَستعمل هذه الصناعة من التغيير بقدر ما تستعمل من الوزن، وذلك شيء يسير.

والتغيير بالجملة يعطي في المعنى جودة إِفهام وغرابة، ولذة. والتغييرات صنفان: إِبدال وتمثيل. والتمثيل صنفان: إِما مضاف، وإِما من سائر المقولات، على ما قيل في غير ما موضع. والإِبدال: إِما إِبدال من الشبيه، وإِما إِبدال من اللازم. واللازم ثلاثة: إِما متقدم على الشيءِ، وإِما مقارن له، وإِما متأَخر عنه. والمتقدم صنفان: إِما سبب الشيء وإِما كلي الشيءِ. والمقارن: إِما زمان الشيءِ، وإِما مكانه، وإِما أَنواعه القسيمة، وإِما مقابلاته الأَربعة، أَعني الأَضداد والموجبة والسالبة والعدم والملكة والمضافين والأَشياء الموجودة مع الشيءِ بالعرض. والمتأَخر هي لواحق الشيءِ، وجزئي الشيءِ. وكل واحد من هذه: إِما بسيط، وإِما مركب. والمركب هو أَن يبدل الأَمر بشيء ما، ويبدل مكان ذلك الشيء شبيهه ويؤخذ بعد ذلك لازم ذلك الشبيه مكان ذلك الشبيه، ثم يؤخذ عرض ذلك اللازم بدل ذلك اللازم، فيغمض الوقوف على مثل هذا النوع من التغييرات، مثل ما عرض في بيت امرئ القيس في قوله: صمَّى ابنة الجبل، إِذ استعمل ذلك بدلا من الأَمر العظيم. وقد قلنا كيف وجه التركيب في هذا الإِبدال فيما سلف.

وإِذ تقرر هذا فلنشرع في الوصايا التي يرى أَرسطو أَنه ينبغي للخطيب أَن يستعملها في التغيير والإِبدال فنقول: إِن أَرسطو يقول: إِنه ينبغي للخطيب أَن يستعمل من التغييرات والإِبدالات ما كان مناسبا مشاكلا لما فيه القول. ويعني بالمشاكل أَن الأَمر الواحد بعينه يمكن فيه أَن يغير تغييرات متضادة، فالمناسب منها هو الذي يلائم الأَمر الذي فيه الإِقناع. مثال ذلك أَن الذي يريد أَن يعظم أَمر الذي سرق، فالمشاكل هو أَن يقول: إِنه حارب. والذي يريد أَن يحقر ذلك يقول: إِنه أَخذ. ثم لا يخلو الخطيب، إِذا أَتى بالمشاكل المناسب، أَن تكون مشاكلته لما فيه القول ظاهرة بنفسها مشهورة، أَو تكون غير ظاهرة. فإِن كانت ظاهرة، اكتفى بالإِتيان بالمناسب وحده. وإِن لم تكن المشاكلة بينة، قرن بها الضد، وذلك أَن يأتى بضد ذلك المناسب وضد الشيء الذي أَخذ المناسب بدلا منه. فإِن مشاكلات الأَضداد أَضداد. ومثال ذلك في المحسوسات أَن الذي يشاكل الشيخ من اللباس غير الذي يشاكل الشاب. وكذلك ينبغي أَن يكون الأَمر في الأَلفاظ. فهاتان وصيتان اثنتان: إِحداهما أَن يستعمل المشاكل البين، والأُخرى أَن يستعمل الغير البين، بأَن يقرن به ضده، فإِنه يفيده وضوحا وظهورا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015