دقة الأصول عند الله تعالى.
والقول الرابع: قول علمائنا: والحجة فيها ما ذكرنا من الآيات المثبتة أنها خلقت لنا ولما ذكرنا أن الخلق لا لهذه الحكمة عبث، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبدليل أن الله تعالى ما حرم شيئاً من أنواع هذه المتناولات إلا لمصالح تعود إلينا في الحرمة.
فحرم الزنا لما فيه من ضياع النسل لعدم التربية في ذلك.
وحرم الإسراف في الأكل لما فيه من الضرر.
وحرم تضييع الأموال لما فيه من السفه.
وحرم الخمر لما فيها من نقص العقول والصد عن ذكر الله تعالى وأفعال المجانين.
وحرم القمار لما فيه من البغضاء والعداوة وفساد الأموال.
وحرم الخنزير لما فيه من عدوى طبعه إلى الأكل وكذلك سائر السباع الناهشة.
وحرم ما حرم باسم الخبائث ليدلنا على حكمة التحريم أنه ما حرم على سبيل الابتلاء بالتحريم لكن حتى لا يعدو إلينا الخبث الذي فيها.
وأباح عند الضرورة لأن ضرر الهلاك فوق ضرر عدوى الخبث، ونقضان العقل بالخمر إلا الزنا لأنه لا يتصور فيه ضرورة مهلكة، لأنه حرم لصلاح النسل وحقهم مثل حقه فلا يسقط حقهم بحقه كما إذا أكره عن القتل، ولو كان التحريم لحق الله تعالى لما سقط بضرورتنا كحرمة الكفر وحرمة الفطر عن الصوم، فإنه وإن هدد بالقتل لم تسقط الحرمة حتى إذا صبر وقتل كان مأجوراً لأن الحرمة ثبتت حقاً لله تعالى، فلم تسقط بحقنا فصار العبد في طاعة الله بالانتهاء عما حرمه عليه.
ولو هدد على أكل الميتة بالقتل فصبر حتى قتل أثم لأن الصلاح لما تعين في التناول سقطت الحرمة لأنها ثبتت لمال فيها من الصلاح، فلما تبدل الصلاح وصار في الإباحة سقطت الحرمة، ولما سقطت الحرمة لم يكن الامتناع عنه طاعة لله تعالى فصار بالامتناع موقعاً نفسه في الهلكة لا على سبيل طاعة الله تعالى فأخذ به.
فثبت أن التحريم من الله تعالى كان على سبيل نهي الطبيب المريض عن بعض الأغذية لصلاح المريض في الامتناع عنه لحاله ثم يبيحه له إذا صار الصلاح في التناول، والنهي عن شرب الدواء في بعض الأحوال، والأمر به في البعض من غير تبدل حال المشروب في نفسه بل لتبدل حال الشارب.
وقد يبيح الطبيب شيئاً لإنسان دون إنسان مع اتفاق حالهما، وإن كان لهما جميعاً صلاح في التناول لأن الصلاح في الكف أتم فنهى عن التناول أحدهما ليظهر له زيادة عناية بمكانه، وإن كان التناول صالحاً.