إما غفلة، وإما قصدا فلا يصير قوله حجة موجبة على أن دلالة العقل مما لا يدل إلا بالنظر والاستدلال.
ولم يثبت أن الأول قال وعمل عن نظر واستدلال أو لا عن نظر واستدلال.
ولئن كان عن نظر واستدلال وبه كان حقا فللسامع من آلة النظر مثل ما للأول فيلزمه النظر برأيه ولا يصير نظر غيره حجة عليه كمن عاين القبلة، وأخبر غيره بجهتها، والسامع يمكنه عيانها لم يكن خبر الأول حجة عليه ولا يجوز له العمل به إلا على تقدير أنه صادق، حتى إذا تبين كذبه كان باطلا ويقال له: ميزت بنظرك بين محتج ومحتج فصير بين حجة وحجة، فالمحتج إنما يصير إماما بالحجة.
ولأن قوله: إن الحقية أصل فتميز منه بينه وبين الباطل وأنه أمر غائب لا يدرك بالحواس فثبت أنه معلوم بالنظر والاستدلال فيكون إقرارا من حيث لا يشعر به أن الحجة هي النظر والاستدلال.
ولأن الحق إما يصير للآدمي بعقله، وصفة العقل لا تسري من أحد إلى أحد والخلاف وقع في ولد آدم عليه السلام.
ولأنا نقول للمقلد: إنك مبطل فقلدني لأني عاقل، فإن قلدك فقد رجع عن مذهبه وأقر أنه مبطل، وإن لم يقلدك فقد رجع عن حجته لأنه لما لم يقلدك فقد زعم أن التقليد باطل.
ولأنا نقول له: أتقلد إمامك على أنه محق أم على أنه مبطل، أم على أنك جاهل بحاله؟
فإن قال على أنه مبطل، أو على أني جاهل بحاله لم يناظر لأنه ممن لم يميز الحق من الباطل فيكون مجنونا، أو ممن زعم أن الباطل متبع فيكون سفيها.
فيبقى قوله على أني أتبعه على أنه محق وقط لا يعرف المحق من غيره بنفس الخبر.
فالمقلد في حاصل أمره ملحق نفسه بالبهائم في إتباع الأولاد الأمهات على مناهجها بلا تمييز فإن ألحق نفسه بها لفقده آلة التمييز فمعذور فيداوى ولا يناظر، وإن ألحقه بها ومعه آلة التمييز فالسيف أولى به حتى يقبل على الآلة فيستعملها ويجيب خطاب الله تعالى المفترض طاعته.
وقد ذم الله تعالى الكفرة على قولهم: "اتبعنا أكابرنا وسلفنا" ذما لا يخفى على من آمن بالله، وأقر بالكتاب إلا أن يعاند بخلاف الكتاب، وكفره بعد الإيمان به فثبت أن القول بالتقليد باطل، وأنه ليس باسم يصلح اسما للحجة بل حجة على الإنسان في الأصل برأيه واستدلاله.