وأما القسم الثاني: فإنما شرطنا العدد واللفظ بنص الكتاب لأنها شرعت حجة لفصل منازعة ثابتة بين اثنين بخبرين صحيحين متعارضين من الدعوى والإنكار، فلم يقع الفصل بجنسه خبراً بل بنوع خبر ظهرت مزيته في التأكيد على غيره من يمين أو شهادة ثم ضرب احتياط بزيادة العدد وهذا المعنى معدوم في حق أحكام الله تعالى، فإن الذي لم يبلغه الخبر لم يكن يعمل به لعدم الدلالة لا لدليل موجب عملاً بما كان عليه فكانت الحالة أخف من حال قيام المنازعة بدليلين صحيحين شرعاً، أعني خبر المنكر والمدعي لأن الشرع جعل خبر كل ذي عقل في الأصل حجة وإنما الرد بعوارض.
وأما المعاملات: فإنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعى إلى الطعام وكان يجيب البر التقي وغيره وكان يشتري من الكافر وكان يصدقه.
وكذلك الأسواق القائمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قائمة بعدول وفساق، والشراء مباح من الكل إلا أن يقع في القلوب تهمة الكذب بأمارات غير فسقهم بزناهم وشرب الخمر وما لا يتصل بالأموال، وقد نص عليها محمد بن الحسن في كتاب "الاستحسان".
ولأن هذا إخبار عن أمر من امور الدين لأن الحل والحرمة دين ولا دليل مع السامع ينازعه به كالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلمبل السامع متمسك بأصل كان لعدم الدليل على زواله فلم يشترط لفظاً عيناً ولا عدداً كما في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه أخف من ذلك.
وذلك لأن للناس ضرورة في التصرف مع الناس لإقامة مصالحهم، ومع وكلاء الملاك وأكثر الناس أبداً فسقة فلو لم يجز التصرف إلا مع العدول لانسد باب التجارات وضاق الأمر على الناس والله تعالى ما جعل في الدين من حرج فلم نشترط العدالة لذلك.
بخلاف الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا ضرورة بنا إلى تصديق الفاسق بعد قيام المعارضة بين صدقه وكذبه، وإن بعدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حكم الله تعالى في تلك الحادثة ممكن إقامته بالقياس الصحيح الذي شرع حجة بلا معارضة حتى إذا تعارض القياسان حل له العمل بما يقع في قلبه أنه الحق، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في القسم الرابع: ان خبر الفاسق حجة وإن كان واحداً.
واما الحجة لأبي حنيفة رضي الله عنه في القسم الرابع: أن المخبر عنه من جنس الأول لأنه خبر عن تصرف المالك بحكم ملكه فإن له الإطلاق والحجر، إلا أن في هذا إلزاماً عدم في الإطلاق ذلك، فأشبه من هذا الوجه القسم الثاني من حقوق الناس التي تجب لهم وعليهم فصار بينهما، فشرط لصحته أحد شرطي الشهادة من عدد أو عدالة بخلاف الرسول فإن قوله وحده حجة في هذا الباب وإن كان فاسقاً، لأن الموكل قد يبدو له في العزل للوكيل، فلا يجد عدلاً ولا اثنين فلو لم تقبل رسالة الفاسق لضاق الأمر على