فالخصم مال إلى أن الإرادة مغيرة حكم الحقيقة لا محالة، واحتمال الإرادة ثابت حال التكلم فثبت احتمال التغيير به إلا أن الله تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا سقط اعتبار الإرادة في حق العمل فلزمنا العمل بالعموم الظاهرة دون ما لا نصل إليه من الإرادة الباطنة، وبقيت الإرادة معتبرة في حق العلم فلا يعلم قطعاً لأنه ليس في وسعنا ذلك، وإنه كلام حسن.
ويجب على هذا الأصل أن لا تطلق المرأة فيما إذا قال لها زوجها: إن كنت تحبين النار فأنت طالق، فقالت: أحب لأنا علمنا يقيناً ببغضها النار طبعاً، وإنما يقام الخبر مقام المحبة لأن سبب علمنا به فيما يحتمل المحبة والبغض فإذا كان الاحتمال زائلاً بدلالة أخرى وجب الحكم بها ولم يجز الوقوف على بيان يقع بالخبر، كما قال في مسألة العموم إنه إنما يحتمل بيان الخصوص بدليل يرد إذا كان مما يحتمل الخصوص بإرادة المتكلم وامتنع العمل بالإرادة لاحتمالها.
فأما إذا كان لا يحتمل إرادة الخصوص كقول الله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم} فلا يجب الوقوف على البيان، وكذلك يجب أن يقول به في حقيقة الخاص مع مجازه.
والجواب عنه لعلمائنا: أن الله تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا وليس في وسعنا الوقوف على الباطن إلا بدلالة ظاهرة لم يجعل الباطن حجة أصلاً في حقنا فسقط اعتباره في حق العمل والعلم جميعاً، وجعل الحجة ما يظهر به الباطن وإن كان سبباً لثبوت الحجة في الباطن إقامة السبب الظاهر مقام ما هو حجة باطنة في نفسها تيسيراً على عباده بزوال كلفة التأمل في الباطن، لاعتبار الحكم بحسب احتمال ثبوته على ما قاله الخصم.
وهذا كما أن الخطاب متعلق باعتدال العقل وإنه أمر باطن والبلوغ سبب ظاهر له على ما عليه الجبلة بلا آفة فعلق الشرع الخطاب بالبلوغ الذي هو سبب ظاهر، وأقامه مقام اعتدال العقل الذي هو أصل فيه تيسيراً فأسقط حقوقه عن الصبي وإن اعتدل عقله كأنه لم يعتدل، وخاطب البالغ وإن لم يعتدل عقله بلا خلاف كأنه اعتدل.
وكذلك رخص السفر في الأصل متعلقة بالمشقة وهذه صفة باطنة، والسفر سبب ظاهر لها فأقام هذا السبب الظاهر مقام المشقة فأثبت به الرخص وإن لم يلحقه مشقة وأزالها بالإقامة وإن لحقته فيها مشقة السفر إلا أن يضطر فيباح له الترك دفعاً للضرورة لا بحكم سقوط الخطاب حتى إذا صبر فقتل كان مأجوراً، أو بمرض في الإقامة فيثبت الرخص في المرض، وإنه جنس آخر غير جنس المشقة.