وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] : هذه الآية الكريمة ابتدأها الله تبارك وتعالى بنداء أهل الإيمان يحذرهم من اتباع سبيل الشيطان، أي: يا أهل الإيمان! يا أهل الطاعة للرحمن! لا تتبعوا خطوات الشيطان، والخطوة: ما يخطوه الإنسان، وأصلها: المسافة بين القدمين، يقال: خطا إذا وضع قدمه على الأرض، وما بين الموضع والموضع خطوة.
وقوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) هذه الآية الكريمة يقول بعض العلماء رحمهم الله: جمعت النهي عن جميع الشرور، فكل الشرور مبدؤها من الشيطان، وسبيل الوقوع فيها وسوسة الشيطان، فالإنسان لا يمكن أن يصيب حدود الله، ولا يجترئ على محارم الله عز وجل إلا بدافع من نفسه، وذلك هو تسويل الشيطان، ووسوسته له في صدره، فجمع الله عز وجل النهي في هذه الآية الكريمة الشرور كلها، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: مَن وفَّقه الله عز وجل فعصمه الله من وسوسة الشيطان ومتابعته فقد فلح وفاز فوزاً عظيماً، ولذلك بيَّن الله تبارك وتعالى في هذه الآية أمرين: الأمر الأول: أن الشيطان داعية الردى، وأنه المحبِّب في سبيل الغي والهوى.
وأما الأمر الثاني: أنه أطلع العباد على عاقبة دعوة الشيطان.
ففي هذه الآية الكريمة كشف الله عز وجل حقيقة العدو اللدود للإنسان -الشيطان-، الذي لا يمكن أن يرتاح إلا إذا أوقع الإنسان في حدود الله ومعاصيه ومحارمه والعياذ بالله! يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا من آمنتم بي! وصدقتم بكتبي! واتبعتم رسلي! إن كنتم مؤمنين حقاً فلا تتبعوا خطوات الشيطان، ثم انظر إلى أسلوب القرآن! حيث قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) ولم يقل: لا تتبعوا الشيطان؛ لأن الشيطان إذا أراد أن يغوي الإنسان أخذه بتدرجٍ مِن حكمته وحنكته والعياذ بالله في الغواية، فيبتدئ مع ولي الله المؤمن فيصيب محقرات الذنوب، ثم يسترسل معه من ذنب إلى ذنب حتى تأتي عليه الساعة التي ينسلخ فيها من دينه -والعياذ بالله-، بعد أن كان من خيار عباد الله وأصلح خلق الله، وبعد أن كانت المرأة من الصالحات القانتات، إذا به يفاجأ -بعد تتبعه خطوات الشيطان في دعوته، واسترساله معه من دركة إلى دركة- عند أن تأتي الساعة -والعياذ بالله، ونسأل الله العصمة منها- التي ينسلخ فيها من دينه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] .
فالشيطان يبتدئ بالمعاصي اليسيرة وبالأمور الحقيرة في نظر الإنسان، فمثلاً: إذا أراد أن يوقع الإنسان في معاصي اللسان: تدرَّجه في المعصية اليسيرة من اللسان، وإذا أراد أن يوقعه في معصية البصر: تدرج معه في أخف معاصي البصر، ثم الشراب، ثم النكاح، ثم غير ذلك من الفواحش والمعاصي.
فيبتدئ مثلاً في معاصي اللسان -إذا كان الرجل من عامة الناس جاهلاً- فيقول له: لا حرج عليك إذا اغتبت شخصاً أو طعنت في شخص، فيتكلم بتلك الكلمة فيُفتح له باب من أبواب الشيطان: لأن من عصى الله بجارحة فتح على نفسه شعبة تلك الجارحة، وهكذا يأتي إنساناً صالحاً لا يتكلم إلا فيما يعنيه، فيقول له: يا هذا! قد ضيقت على نفسك، فأنت تزعم أنك من الصالحين ومن عباد الله المتقين! والدين يسر ورحمة، لماذا لا تتكلم في فضول الدنيا؟ وقد كان شخصاً حافظاً للسانه لا يتحدث في فضول الدنيا ولا يتكلم إلا فيما يعنيه، فيتدرج معه حتى يتكلم فيما لا يعنيه، فيبتدئ معه في فضول الدنيا، فيصبح يسأل عن هذا وذاك مما لا يعنيه، ثم يتدرج معه بعد ذلك إلى السؤال عن المحرمات، والوقوع في الحدود والسيئات التي نهى الله عز وجل عنها، حتى يأتي ذلك اليوم -والعياذ بالله- الذي يكون فيه من أفحش الناس لساناً، وأقذعهم بياناً نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يسلم لسانه أن يحفظ كل أمر فيه حد من حدود الله، وأن يبتدئ بالكمال بعصمة اللسان عن فضول الحديث، ولذلك كان بعض السلف رحمهم الله يحصي الكلمات التي يتكلمها من الجمعة إلى الجمعة، وقال بعضهم: والله! ما تكلمت بكلمة منذ ثلاثين عاماً أو أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل.
وبهذا قد يكون الإنسان قد تتبع خطوات الشيطان بلسانه.
ثم يأتيه في البصر، فيكون الإنسان -مثلاً- أعف الناس بصراً، ربما إذا شعر بالشيء لم يتبيَّنه اتقاء أن تكون امرأة أو شيئاً مما حرم الله فيبتدر قبل التبين ويغض بصره، فيقول له الشيطان: ما هذا التشديد على نفسك؟! وما هذا التنطع في الدين والدين يسر؟! فيبتدئ معه بالنظرة اليسيرة التي تبتدئ ربما بنظرة إلى القدم، ثم يعلو معه رويداً رويداً حتى يصبح لا خلاق عنده، ولا دين عنده يحفظ به بصره عن عورات المسلمين، ولربما يسترسل به إلى أقرب الناس إليه وهو جاره، فيطلع على أستاره ويهتك ستر الله عليه والعياذ بالله العظيم من كل ذلك.
فالمقصود: أن الشيطان متفنن في غواية الناس والعياذ بالله، والله من حكمته قال: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] : فكل معصية داعية إلى أختها.
وكذلك بالنسبة للسمع، يقول له: ما بالك لا تسمع فضول أحاديث الناس؟! وما بالك لا تجلس مع الناس فتسمع أحاديثهم فتروِّح عن نفسك؟! فالدين يسر لا تنطع فيه، حتى إذا ابتدأ معه في ذلك جلس مع الناس فقال له: إذا ذكرت الغيبة قال له: استمع إليها كما يستمع إليها غيرك، فيسترسل معه والعياذ بالله حتى تأتي الساعة التي لا يبالي بها بسماع ما حرم الله عز وجل عليه.
وقس على ذلك الرجل، واليد، والفرج، وغير ذلك من الجوارح.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا وإياكم من متابعة الشيطان في جميع ذلك.