أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:11-21] .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذه الآيات الكريمة بيَّن الله تبارك وتعالى فيها قصة الإفك أو حادثة الإفك، وهي من أعظم الحوادث التي وقعت في العصر المدني، والتي عايش النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحزانَها، وعايشت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلاءها وأشجانَها، وعايش أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَرْبها.
هذه الآيات الكريمة نزلت في حادثة الإفك، والأصل فيها ما ثبت في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما غزا غزوة بني المصطلق -وتسمى: غزوة المريسيع، وقد سميت غزوة بني المصطلق اعتباراً لمن غزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم بطن من خزاعة، وسميت بغزوة المريسيع؛ لأن الماء الذي نزل عليه هذا الحي يسمى بماء المريسيع، وقد كانت سنة ستٍِ كما قاله بعض أهل السير- لما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج لهذه الغزوة، وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الغزوة أن يُقرِع بين نسائه، فمن خرجت لها القرعة خرجت معه عليه الصلاة والسلام، وشاء الله عز وجل أن تكون القرعةُ في هذه الغزوة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا انتهت الغزوة، آذَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه بالرجوع إلى المدينة، فلما علمت عائشة رضي الله عنها برحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته الرجوع إلى المدينة خرجت لقضاء حاجتها، وكان الجيش لا كنيف فيه، فخرجت تبعد عن القوم من أجل قضاء حاجتها رضي الله عنها وأرضاها حتى إذا توارت عن الجيش وقضت حاجتها، رجعت إلى منزلها وخبائها الذي نزلت فيه، فإذا بها قد فقدت عِقداً لها من جزع ظفار -والجزع: أصله الخرز، وقولهم: جزع ظفار؛ المراد بظفارٍ: موضع قِبَل اليمن، وهو المعروف الآن بعُمان، أُضيف إلى هذا البلد لكونه يُصنع فيه-، ففقدت هذا العقد، فخرجت رضي الله عنها وأرضاها إلى الموضع الذي قضت حاجتها فيه حتى تجد العِقد الذي فقدته، وشاء الله عز وجل لما خرجت جاء الذي يقود جملها وحمل مع آخرين هودجها، وكانت رضي الله عنها خفيفة صغيرة السن، فلم يستبعد وجودَها في الهودج ولم يستغرب من خفة الهودج رضي الله عنه، فسار به وهو يظن أن أم المؤمنين رضي الله عنها داخل الهودج، فخرجت حتى إذا وجدت حاجتها رجعت إلى منزلها، وإذا بالجيش قد ارتحل فرجعت إلى موضعها علَّهم أن يفقدوها ثم يرجعوا في طلبها، وشاء الله عز وجل أن يدركها النوم، فنامت في الموضع الذي هو منزل لها حين نزل الجيش، فجاء صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، قالت: فنمتُ، فما راعني إلا صوت صفوان رضي الله عنه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان صفوان رضي الله عنه يعرفها قبل نزول آية الحجاب، قالت: فأخذت الخمار فغطيت به وجهي وأعرض عني رضي الله عنه، ووالله ما كلمني بكلمة، وأناخ لها البعير رضي الله عنه وأرضاه.
- صفوان بن المعطل صحابي جليل له فضله، فإنه لما اتُّهم بأم المؤمنين رضي الله عنه وعنها وأرضاهما، قال: (والله! ما كشفتُ كنف أنثى) .
أي: ما زنيت بامرأة قط، وهذا من عفته رضي الله عنه وأرضاه، واستُشهد رضي الله عنه في خلافة عمر سنة تسع عشرة في غزوة أرمينية، وقيل: إنه قُتل رضي الله عنه في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين من الهجرة، فالشاهد: أن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، لما رآها أناخ لها البعير، وقد كان من ساقة الجيش، والساقة يتفقدون مَن وراء الجيش، لكي يعينوه إذا أصابه العجز عن المسير، أو حصل به ضرر -لا سمح الله- قالت: فاحتملني فما كلمني بكلمة حتى دخل بها المدينة، فرآهما عدو الله عليه مِن الله اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال مقالته الخبيثة، قال: والله! ما نجا منها ولا نجت منه.
فاتَّهمها رضي الله عنها وأرضاها، ونسبها إلى الذي هي منه بريئة، وشاء الله عز وجل ما شاء، فخاض الناس في شأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، واتهموها بما اتهمها به عدو الله، وكان المسلمون على طوائف: - منهم من أنكر وكذب إبقاءً لبراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
- ومنهم من حمل الحديث ونقله دون أن يصدقه ولكن كان يشهِّر به في المجالس.
- ومنهم من سمعه وصدقه.
فأصبح الناس ما بين مصدِّق ومكذِّب، وناقل للحديث.
ومضى على ذلك شهر كامل، وشاء الله عز وجل أن عائشة رضي الله عنها لم تكن على علم بكلام الناس فيها، فبمجرد أن أدخلها صفوان إلى المدينة أصابها المرض فاشتكت، فذهبت إلى بيت أبيها فجلست فيه رضي الله عنها وأرضاها، والناس يتكلمون في عرضها، وهي غافلة لا تدري من حديث الناس شيئاً، حتى شاء الله عز وجل في يوم من الأيام أن تخرج إلى المناصع -وهو موضع شرقي المدينة- لقضاء حاجتها، وكانت معها أم مسطح بن أثاثة رضي الله عنهما، فلما رجعت من قضاء حاجتها عثرت أم مسطح في مِرْطها، فقالت: تعس مسطح، فلما قالت هذه المقالة، عتبت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن قالت هذه المقالة في حق ابنها، وكان مسطح ممن خاض في حديث عائشة رضي الله عنها، وتهمتها، فلما ردت عائشة مقالة أم مسطح أخبرتها أم مسطح بالخبر، قالت عائشة: فذكرت لي الحديث، فسألتها: هل علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؟ فأخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم بذلك، ثم سألت: هل علم أبوها وأمها بذلك؟ فقالت: نعم، فخرَّت مغشياً عليها رضي الله عنها وأرضاها، وشاء الله عز وجل ما شاء من فتنتها بهذه المقالة، وأصابتها الحمى، وجعلَتْ تنفض من شدة ما وجدت من التهمة والزور والبهتان فيها رضي الله عنها وأرضاها، ثم شاء الله عز وجل ما شاء، فمَضَت عليها ثلاث ليال لا تنام لها عين ولا ترقأ عن الدمع رضي الله عنها وأرضاها، قالت: فلما كانت الليلة الثالثة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وقال: يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت لأبيها: أجب رسول الله، فما استطاع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أن يتكلم، وقالت لأمها: أجيبي رسول الله، فما استطاعت أمها أن ترد الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما غلبهما ما غلبهما من العي والحصر في جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: والله! لئن قلتُ لكم: إني لم أفعل لم تصدقوني، ولو قلت لكم: إني فعلتُ صدقتموني، فوالله! ما فعلت؛ ولكن الله سيبرئني، ثم قالت: ولكن أقول كما قال أبو يوسف -عجز عنها اسم يعقوب عليه السلام من شدة ما وجدت رضي الله عنها من الهم والحزن-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، فاستعانت بالله عز وجل، فما قضت حديثها حتى نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها، فكانت هذه الحادثة من أشد الحوادث المدنية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآيات التي صبَّرها الله عز وجل بها، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ