يقول تبارك وتعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] الرأفة: هي الرقة والرحمة وللعلماء في هذا النهي الذي ورد في هذه الآية وجهان: الوجه الأول: مِن العلماء مَن قال: إن الله تبارك وتعالى أراد بهذه الكلمة ألاَّ يمتنع الإنسان من إقامة الحد على الزاني، أو إقامة الحد على الزانية شفقةً عليهما، بل ينبغي ألاَّ تأخذه في الله لومة لائم، وينبغي عليه أن يعلم أن الله أرحم بعباده من عباده بأنفسهم، فهو الذي شرع ذلك، فلابد من مضي شرعه، ولذلك حذر الشرع أيُّما تحذير من تعطيل الحدود، ومن عطل الحد فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظم شأن الحد، وأنه يُشرع للإنسان أن يدفع الحد بشرط أن لا يبلغ السلطان، فإذا بلغت الحدود إلى السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع، وهذا يدل على أنه إذا ثبت الحد الشرعي فلا وجه لتعطيله، ولا وجه للمنع منه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما شُفع في الحد عنده: (أتشفع في حد من حدود الله؟! -استفهام إنكار، أي: ويحك هل تشفع في حد من حدود الله؟! - ثم رقى المنبر وقال: والذي نفسي بيده! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي تركوه، والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وهذا يدل على عظم شأن الحدود، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه فيما أُثر عنه: (إقامة حد لله خير من أن يمطر الناس مائة عام) .
وهذا يدل على عظم الحد عند الله، وعظم منزلته عند الأخيار من عباد الله.
الوجه الثاني: يقول بعض العلماء: المراد من هذه الآية التحذير من التساهل أثناء الضرب، فيضرب الجالد ضرباً رقيقاً رفيقاً من باب الرأفة، فأراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة أن يكون الإنسان حال إقامته للحد على الحال الذي ينبغي أن يكون عليه من إقامة الحد، فقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) على هذا القول المراد به أن يضرب الضرب الوسط الذي لا رأفة فيه ولا شدة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا ضرب لا ينبغي له أن يُبْعِد العضد عن جنبه، وإنما يضرب ولا يتكاسل في ضربه، ويكون وسطاً بين الضربين، فيضرب ضربة بين الضربتين، وهي التي يسميها بعضهم الضربة بين الحانق وهو الرجل الغضبان، وبين المتماوت الذي يضرب ضرباً يسيراً أو رفيقاً، فالمراد بهذه الآية الكريمة على هذا القول أن يكون الإنسان أثناء جلده مراعياً لحد الله، فلا يتساهل ولا يرأف بالشخص المحدود سواءً كان رجلاً أو كان امرأة، ولذلك استشهد بهذه الآية الكريمة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه ليدلل بها على ما ينبغي أن يكون عليه الجالد.
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] : أي: يا معشر أهل الإيمان! إن كنتم من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فعظموا حدود الله، وأقيموا شرع الله، ولا تأخذكم في ذلك رأفة تحول بين إقامة الحد على وجهه، بل ينبغي أن تكون الحمية لله، وأن تكون العصبية لدين الله وشرعه وحكمه.