وفي هذه الآية يبيِّن سبحانه وتعالى جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا) ، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ) .
إذاً: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته صلى الله عليه وسلم لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) .
وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان صلى الله عليه وسلم يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلاً منا.
والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائماً في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو.
الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه صلى الله عليه وسلم بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، ثم قال للعباس: (نادي أصحاب السمرة) .
والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد رضي الله عنهم، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.
ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئاً جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة.
إذاً: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.