بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد تقدم الكلام على الآيتين الكريمتين في أول السورة الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، والتي تليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، إلى آخر الآية.
وهنا يأتي قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3] .
في الآية التي قبلها (لا تَرْفَعُوا) ، وهذه الآية بيان لمفهوم المخالفة؛ لأن من لم يرفع صوته يغضه، وهذا في النسق القرآني الكريم يدل على الترابط بين الآي والآي.
ويقول علماء الأصول: إن النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ويمثلون: إذا قلت لإنسان: اسكن، فقد أمرته بالسكون ويتضمن النهي عن الحركة، وإذا قلت له: صم، فإنك أمرته بالصوم ونهيته عن الأكل والشرب ومبطلات الصوم.
ففي الآية الأولى (لا تَرْفَعُوا) ، وعكس رفع الصوت غضه.
فالآية الكريمة الثالثة جاءت بنص مفهوم الآية التي قبلها، وبيّن سبحانه مكانة من تأدب بأدب القرآن ونتيجة هذا الامتثال، إذا قيل لهم: (لا ترفعوا أصواتكم) ؛ فحالاً يمتثلون ويغضون الأصوات، وبيّن نتيجة هذا الامتثال السريع فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ) .
ومجيء (إن) هنا راجعة لتبعيض الصوت، أو راجعة لتبعيض الغض منه، فقد يضطر الإنسان في حالة شديدة ويرفع صوته ليبلغ مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحالة لا يعاب عليه؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما يريد إلا بهذا النوع من رفع الصوت، فلا يكون في ذلك ارتكاب للمنهي عنه، أما في الأمور العادية فلا يرفع صوته بل يغض منه.
والغض من الشيء: التنقيص منه، كما في غض البصر، فهو كف البصر عن النظر إلى منتهاه، وإنما يغض بصره ويكفه عما لا يحل له.