وحديثًا، وذلك هو دستورها في حكمها لمستأمراتها، وقد نقش حكامها في صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه: فَرِّقْ تَسُدْ، وطالما أجدى عليهم في سياسة تلك البلاد التي يعمها الجهل، ويطغى على أهلها حب الظهور، ويرضون بالنفاية والقشور، رحماك اللهم رحماك! بسطت لعبادك سنتك في الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان:
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوْسِ فَإنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لاَ يَظْلِمُ
وجملة قوله (?): {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} حال من فاعل جعل؛ أي: جعلهم شيعًا حال كونه مستضعفًا طائفة منهم، أو مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقًا وأصنافًا، كانه قيل: كيف جعلهم شيعًا؟ فال: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل مصر، وتلك الطائفة بنو إسرائيل ومعنى الاستضعاف إنهم عجزوا وضعفوا عن دفع ما ابتلوا به عن أنفسهم.
قال ابن عباس (?): إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى - عليه السلام -؛ أي: يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف.
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} كثيرًا صغارًا، وأصل الذبح شق حلق الحيوان، والتشديد للتكثير؛ أي: يقتل أبناء تلك الطائفة كثيرًا، بعضهم إثر بعض، حتى قتل تسعين ألفًا من أبناء بني إسرائيل صغارًا، وقرأ الجمهور {يذبِّح} مضعفًا، وأبو حيوة وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال.
{وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}؛ أي: يترك بناتهم أحياء لأجل الاستخدام، وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيء موسى عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة، وهذا