غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذاك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغًا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعد من المستعدين له، وهكذا كل من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حده.
وإنما قال هنا (?): {عُتُوًّا} على الأصل، وفي سورة مريم: {عِتِيًّا} على استثقال اجتماع الواوين، والقلب لمناسبة الفواصل هناك.
وحاصل معنى الآية: أي (?) وقال الذين ينكرون البعث والحشر، ويطعنون في صدق الرسول فيما أوحي به إليه: هلا أنزل علينا الملائكة، فيخبرونا بأن محمدًا صادق فيما يدعي، فإنّا في شك من أمره، وفي ريب مما يخبر به، وإن لم يكن هذا فلنر ربنا، ونعلم أنه هو حقًا بأمارات لا يعتريها لبس، ثم يقول لنا: إني أرسلت إليكم محمدًا من لدني بشيرًا ونذيرًا، فإن تم لنا ذلك صدقناه وآمنا به، وما مقصدهم من هذا وذاك إلا التمادي في الإنكار والعناد والعتو، ومن ثم قال: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}؛ أي: والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم، وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان تجاوزًا بلغ أقصى الغاية تكذيبًا برسوله، وشموخًا بأنوفهم عن أن ينصاعوا إليه ويتبعوه، ولم يأبهوا بباهر معجزاته، ولا كثرة آياته، وإنهم لقد بلغوا غاية القحة في الطلب. وفي الحق أن شأنهم لعجب، وأن العقل ليحار في أمرهم ويدهش لقصور عقولهم، وسذاجة آرائهم، وضعف أحلامهم {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)}، ولله در القائل:
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ ... رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لاَ يَرَى
ثم بين أنهم سيلقون الملائكة حين الهول يوم القيامة، لا على الوجه الذي طلبوه، ولا على الصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر لم يمر ببالهم، فقال: