إضرابًا عن اللفظ المقول؛ لأنّه واقعٌ لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنَّما الإضراب عن النسبة المفهومة من قولهم: قلوبنا غلفٌ؛ لأنّها خُلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورةً لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تُخْلق عليه، ثمّ أخبر تعالى أنّهم لُعِنُوا بسبب ما تقدّم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللَّعن المتسبَّب عن الذنب الذي هو الكفر، فانتصاب {قليلًا} في قوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} على المصدرية على أنّه نعت لمصدر محذوف، و {مَا} مزيدةٌ؛ لتأكيد القلَّة، والفاء لسببية (?) اللعن؛ لعدم الإيمان؛ أي: فَبسبَبِ ذلك اللعنِ يؤمنون إيمانًا قليلًا في غاية القلّة، قاله قتادة؛ أي: يؤمنون بالقليل مِمَّا كلفوا به؛ لأنّهم يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل، وبما جاؤوا به؛ أي: إيمانهم قليلٌ جدًّا، أو على الظرفية على أنّه نعت لزمان محذوف؛ أي: فيؤمنون زمانًا قليلًا في غاية القلة؛ لقوله تعالى: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} أو على الحالية من فاعل يؤمنون حال كونهم جمعًا قليلًا؛ أي: المؤمن منهم قليلٌ، كعبد الله بن سلام، وأضرابه، وقال هذا المعنى ابن عباس، وقتادة أيضًا، وهو مذهب سيبويه، والأحسن من هذه المعاني كلِّها هو الأول؛ لأنّ دلالة الفعل على مصدره، أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل؛ ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {فلا يؤمنون إلّا قليلًا} اهـ. من "البحر".
89 - {وَلَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: ولما جاء اليهود المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {كِتَابٌ} وقرآن نازلٌ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، ووصفه بقوله: من عند الله؛ للتشريف؛ وللدلالة على أنَّه جديرٌ بأن يقبل، ويُتَّبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو واردٌ من عند خالقهم، وإلههم الذي هو ناظرٌ في مصالحهم، {مُصَدِّقٌ}؛ أي: موافقٌ {لِمَا مَعَهُمْ}؛ أي: لكتابهم؛ أي: للتوراة التي في أيديهم في التوحيد، وبعض الشرائع، وصفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو صفةٌ ثانيةٌ، وقُدّمت (?) الأولى عليها؛ لأنّ الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشيءٌ عن كونه