المفاداة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ما فيه، وتجحدونه ولا تمتثلونه، وهو ترك القتل، والإخراج، والمظاهرة، والذي في الكتاب فعل جميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، فهم فعلوا الواجب الذي هو المفاداة، ولم يتركوا المحرَّم الذي هو القتل، والإخراج، والمظاهرة، وذلك منتهى ما يكون من الحماقة، فإنَّ الإيمان لا يتجزأ، والغرض من ذلك؛ التوبيخ لهم؛ لأنّهم جمعوا بين الكفر والإيمان، والكفرُ ببعض آيات الله كفرٌ بالكتاب كِلّه، فلهذا عقب ذلك بقوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ...} إلخ.
والهمزة في قوله (?): {أَفَتُؤْمِنُونَ} للاستفهام التوبيخي المضمَّن للإنكار، داخلةٌ على محذوف يستدعيه المقام، والفاء عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتفعلون ذلك، فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ، مع أنَّ قضيَّة الإيمان، الإيمان بالباقي؛ لكون الكل من عند الله تعالى داخلًا في الميثاق، فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض {فَمَا جَزَاءُ} نفي؛ أي: ليس جزاء {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ}؛ أي: الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان بالبعض {مِنْكُمْ} يا معشر اليهود: حالٌ من فاعل يفعل، {إِلَّا خِزْيٌ} استثناءٌ (?) مفرع وقع خبرًا للمبتدأ؛ أي: ذُلٌّ وهوانٌ مع الفضيحة، وهو قتل بني قريظة، وأسرهم، وإجلاء بني النضير إلى أذرعات، وأريحا من الشام، وقيل: هو أخذ الجزية {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفة خزي، ولعلَّ بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر؛ لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب، وإظهار أنَّه لا أثر له أصلًا مع الكفر بالبعض {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: ويوم تقام فيه الأجزية، وهو عبارةٌ عن زمانٍ مُمْتَدٍّ إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار، {يُرَدُّونَ}؛ أي: يرجعون، والردُّ: الرَّجع بعد الأخذ {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} وهو التعذيب في جهنّم، وهو أشدُّ من خزيهم في الدنيا، وأشدُّ من كل عذاب كان قبله، فإنَّه ينقطع وهذا لا ينقطع، وفي الحديث: "فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، وإنّما كان أشدَّ؛ لما أنَّ معصيتهم كانت أشدَّ المعاصي.