من بعد نوح كعاد، وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثمّ قسم العباد قسمين: قسم يحبّ الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار، وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة، ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور، مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه؛ إذ ليس عطاؤه بممنوع من أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعضٍ في أرزاق، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من درجات التفاوت في الدنيا، وأبعد مدى.
قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنّ الناس فريقان (?): فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله تعالى، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة، وأن يكونوا مؤمنين، لا جرم فصّل الله في هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم. ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنّهما السبب الظاهر في وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوي القربى حقوقهم، ثمّ بالأمر بإصلاح أحوال المساكين، وأبناء السبيل؛ لأن في إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلّهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفّى على ذلك بالنهي عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء، وعدم ارتباكه في معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففي صلاحهم صلاحها، ثمّ علّمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبيّن أنّ الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثمّ تلا هذا بالنهي عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب وفقدان النسل أو قلّته ووقوع الشّغب والقتال بين الناس دفاعًا عن