وفي هذا قطع لأطماعهم الفارغة؛ إذ كانوا يزعمون أنّهم إن لم يكونوا على الحقّ فالتّبعة على أسلافهم الذين قلدوهم، روي عن ابن عباس: أنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم، ولا معارضة بين هذه الآية وبين قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ}؛ فإن الدعاة إلى الضلال، عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك، ولا يرفع عنهم منها شيئًا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده.
ثم ذكر عنايته ورحمته بهم، فقال: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ}؛ أي: وما صحّ (?) وما استقام منا، بل استحال في عاداتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذب أحدًا من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل، {حَتَّى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولًا} يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال، ويقيم الحجج ويمهد الشرائع، قطعا للمعذرة، وإلزاما للحجّة، وفيه دلالة على أن البعثة واجبة لا بمعنى الوجوب على الله، بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضي ذلك لما فيه من المصالح والحكم، والمراد بالعذاب المنفيِّ هو العذاب الدنيوي، وهو من مقدمات العذاب الأخرويّ، فجوزوا على الكفر والمعاندة بالعذاب في الدارين وما بينهما أيضًا وهو البرزخ، وفي هذا دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل اهـ. خازن؛ أي (?): وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم.
وخلاصة ذلك: أن سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن لا نعذب أحدًا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروي على فعل شيء أو تركه، إلا إذا أرسلنا رسولًا يهدي إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع، وتبلغه دعوته.
وعبارة الشوكاني هنا: ولمَّا ذكر الله سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته،