يأمن فيه أهله بحيث لا يخاف فيه من المخاوف والمكاره، كالقتل والغارة والأمراض المنفرة من البرص والجذام ونحوهما، فإسناد الأمن إلى البلد مجاز؛ لوقوع الأمن فيه، وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد.

والغرض من سياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع (?): بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة، وقيل: إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة وقيل: لقصد الدعاء إلى التوحيد وإنكار عبادة الأصنام.

وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده؛ لأنه إذا انتفى الأمن لم يفزغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا. فإن قلت (?): لم قال في سورة البقرة: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} بالتنكير وقال هنا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} بالتعريف، فأي فرق بين الموضعين؟

قلتُ: الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن فيها أهلها ولا يخافون، وذلك قبل بناء البيت حين وضع هاجر وإسماعيل في مكان البيت، وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: وهو بلد مخوف، فاجعله آمنًا، وذلك بعد بناء البيت.

والحاصل: أن هذا الدعاء وقع مرتين (?) مرة قبل بنائها ومرة بعده، ولذلك كتب الكرخي في سورة البقرة ما نصه: ونكر البلد هنا وعرّفه في إبراهيم؛ لأن الدعوة هنا كانت قبل جعل المكان بلدًا، فطلب من الله أن يُجعل ويُصيَّرَ بلدًا آمنًا، وهناك كانت الدعوة بعد جعله بلدًا.

والخلاصة: أن الفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن. وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرمًا لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015