بعد أن أثبته الدين، وبعد أن كشف العلم أن كثيرًا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئًا إلا تحصيه. فقد أصبحت المياه والكهرباء في المدن تعد بالآلات - العدادات -، فالمياه التي يشربونها والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعد كما يعد الدرهم والدينار. وكذلك هناك آلات تحصي المسافات التي تقطعها السيارات في سيرها، وأخرى تحصي تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها، وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبًا عنا كان في ذلك تصديق أيما تصديق لنظريات الدين، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرون إلا بما يرونه رأي العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم، وبهذا يصدق قول القائل: الدين والعقل في الإِسلام صنوان لا يفترقان، وصديقان لا يختلفان.
والمعنى: له (?) ملائكة يتعاقب بعضهم بعضًا كائنون من أمام الإنسان ووراء ظهره؛ أي: يحيطون به من جوانبه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: يحفظون من ذكر؛ أي: من بأسه ونقمته إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب من ذنبه أو ينيب، أو يحفظونه من المضار التي أمر الله بالحفظ منها. قال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما يأتيه منهم شيء يريده إلا قال: وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. أو المعنى: هم يحفظونه (?) بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فـ {من} بمعنى الباء، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابًا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته حكمته، فجعل الجفن سببًا لحفظ العين مما يدخل فيها فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابًا، فجعل الملائكة أسبابًا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح. وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كرامًا كاتبين، وإن كنا لا ندري ما قلمهم وما مدادهم،